فاجأ الرئيس الروسى فلاديمير بوتين المشاركين فى مؤتمر دولى عُقد فى منتجع «سوتشي» الروسى على بحر قزوين الأسبوع قبل الماضى بتصريحين مثيرين للغاية ومتناقضين فى آن بخصوص مجريات وآفاق الصراعات الدموية التى تحدث فى الشرق الأوسط خاصة فى سورياوالعراق. ففى الوقت الذى أعلن فيه بوتين «فشل الشراكة مع الولاياتالمتحدة» لإيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية، ما يعنى أن بوتين لم يعد يرى غير أن «الحسم العسكرى هو الحل» لتلك الأزمة، ومن ثم المزيد من الحروب والدماء والدمار إلى حين تولد معالم جديدة للحل السياسي، نجده يخاطب مستمعيه فى هذا المؤتمر بالدعوة إلى «خطة مارشال» لإعمار منطقة الشرق الأوسط على غرار خطة مارشال التى كان لها الفضل فى إعمار أوروبا من الدمار الذى لحق بها نتيجة للحرب العالمية الثانية. قال بوتين بهذا الخصوص إن «التدمير الشامل للمنطقة يتطلب تطوير برنامج طويل الأجل وشديد التعقيد لإعمارها». هذا القول يعني، ضمن ما يعني، أن الصراعات الملتهبة فى الشرق الأوسط تتجه نحو النهاية، وأن السلام أصبح وشيكاً، وأن أولوية التفكير يجب أن تركز الآن على «إعادة الإعمار»!! فأيهما نصدق من أقوال، الرئيس الروسى. لو تذكرنا أن أقوال بوتين جاءت فى أعقاب فشل الترتيبات التى تم التوافق عليها فى اجتماع لوزان لأدركنا أن الأرجح فى أقوال بوتين هو أن الحسم العسكرى هو الذى سيفرض نفسه، أو الذى بدأ فعلاً يفرض نفسه الآن فى سوريا، تماماً كما هو الحال فى العراق بخصوص معركة تحرير الموصل، حيث إن خرائط المعارك والأطراف المشاركة فيها هى التى ستحدد المواقع السياسية لتلك الأطراف. عقد مؤتمر لوزان (15/10/2016) كمحاولة للإنقاذ، ليس فقط إنقاذ الأزمة السورية والسوريين من ويلات حروب ليست لها نهاية بل، وبالأساس، إنقاذ سوريا والشرق الأوسط، وربما العالم كله من مخاطر حرب أو مواجهة عسكرية مباشرة روسية أمريكية على الأرض السورية، ربما تقود، حسب توقع كثيرين إلى «حرب عالمية» بعد أن سقطت الهدنة التى كانت قد توصلت إليها واشنطن وموسكو فى حلب إثر اعتداءات أمريكية على معسكرات للجيش السورى فى دير الزور. وجاء اقتراح عقد مؤتمر لوزان المشار إليه لإنقاذ فرص الحل السياسى للأزمة السورية وتجديد فرص التوصل إلى هدنة فى حلب لإنقاذ المدنيين داخل هذه المدينة الكبيرة والمهمة التى يسيطر الجيش السورى على شطرها الغربي، ويحاصر شطرها الشرقى الذى تتركز داخله جبهة النصرة، التى أخذت تُعرف باسم «جبهة فتح الشام» وهى امتداد لتنظيم «القاعدة» الإرهابى فى سوريا، مع عدد كبير من الفصائل الأخرى التى توصف ب «الجهادية» فى الإعلام الموالي، أو المعتدلة فى الإعلام الدولي، أبرزها جبهة «أحرار الشام» المدعومة من تركيا والسعودية وقطر والتى تشكل تحالفاً مع «جبهة النصرة» فيما يُعرف ب «جيش الفتح». اجتماع لوزان الذى شاركت فيه الولاياتالمتحدةوروسياوتركيا والسعودية وقطر وإيران، وأضيف إليه مصر والعراق بطلب من إيران، واستبعدت بريطانيا وفرنسا بموافقة أمريكية عقد ضمن حملة سياسية وإعلامية دولية وإقليمية كانت تحذر من المخاطر التى تتهدد حياة المدنيين داخل مدينة حلب المحاصرة من الجيش السوري، وكان التركيز فى هذا الاجتماع على كيفية التوصل إلى حلول ترضى الطرفين، الطرف الذى يحاصر المدينة من أجل تحريرها من المنظمات الإرهابية التى تحتلها وتتحصن داخلها وتتخذ من المدنيين داخلها دروعاً بشرية تحول دون اقتحامها من الجيش السوري، والطرف الآخر الذى يحمى ويساند تلك المنظمات الإرهابية التى مازالت تزعم التحدث باسم الثورة السورية. كان محور مطالب الطرف السورى والروسى والإيرانى فى اجتماع لوزان هو فصل ما يُعرف بأنه منظمات معتدلة عن المنظمات الإرهابية، والإصرار على خروج هذه المنظمات الإرهابية من حلب وبالتحديد تنظيم القاعدة سواء كان اسمه «جبهة النصرة» أو «جبهة فتح الشام» من الأحياء الشرقية التى تتركز فيها داخل المدينة كشرط مسبق ل «هدنة دائمة». وكشفت معلومات ذلك الاجتماع أن «الثلاثي: التركى السعودى القطري» أعرب عن «استعداده للتجاوب مع روسيا عبر النفوذ مع المعارضة السورية المسلحة للانفصال عن جبهة النصرة». ما حدث بعد هذا الاجتماع أن كل فصائل المعارضة تضامنت مع جبهة النصرة، وتم رفض مطلب إخراج جبهة النصرة من الشطر الشرقى لحلب الذى تحاصره قوات الجيش السورى بحجة أن روسيا لم تلتزم بالشرط الذى طرحته تلك الدول الثلاث للموافقة على إخراج النصرة من حلب وهو «أن يقوم الجيش السورى بتجميد عملياته العسكرية، ووقف القتل للمدنيين وفك الحصار». هذا الشرط كان مجرد إدعاء لتبرير رفض ما توصل إليه اجتماع لوزان لأن التخطيط الأمريكى مع المعارضة والقوى الداعمة كان يجرى فى الاتجاه المعاكس، حيث كانت الاستعدادات تجرى على قدم وساق لخوض ما سموه ب «أم المعارك» لتحرير حلب. فقد منعت المنظمات الإرهابية أى خروج للمصابين والجرحى والمدنيين من حلب، وأفشلت هدنة روسية سورية جديدة، وسط معلومات عن دخول أسلحة متطورة إلى منظمات المعارضة، وبدأ ما يُعرف ب «جيش الفتح» الذى يتكون أساساً من «جبهة النصرة» ومن «أحرار الشام» ومنظمات أخرى بشن معارك مزدوجة تستهدف من ناحية فك الحصار عن الشطر الشرقى المحاصر من حلب مع العمل على تحرير الشطر الغربى من المدينة الذى تسيطر عليه قوات الجيش السوري. وهكذا سقطت توصيات اجتماع لوزان، لأن الأطراف الداعمة للمنظمات الإرهابية أو الجهادية ترفض التخلى عن حلب باعتبارها أهم أوراق التفاوض لأى حل سياسى على أرضية توازن قوى عسكرى يحقق أهدافها، الأمر الذى دفع روسيا وعلى لسان وزير خارجيتها سيرجى لافروف إلى إعلان «العد العكسي» لتحرير حلب، ومعتبراً أن الهجمات الحالية للمعارضة تؤكد مرة أخرى أن «كل المسلحين المتواجدين فى حلب الشرقية متواطئون فى جرائم جبهة النصرة، ما يعنى أنهم باتوا أهدافاً مشروعة» وموضحاً أن الولاياتالمتحدة وحلفاءها لم تكن مع مطلب الفصل بين الإرهابيين والمعتدلين. وهكذا عاد «الحسم العسكري» ليفرض نفسه مجدداً كخيار لكل الأطراف التى باتت تدرك أن أهدافها السياسية مرهونة بما تحققه على أرض الصراع العسكري، الأمر الذى يؤكد أن حسم مصير سوريا مازال غامضاً وأن أى حديث عن «خطة مارشال» هدف بعيد المنال. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس;