الانتماء للوطن وصيانته والحفاظ عليه، والدفاع عنه، هو قيمة إسلامية عظيمة، بل هو فطرة فى كل نفس سوية، وما أروعها من كلمات قالها النبى صلى الله عليه وسلم حين هاجر الى المدينةالمنورة،فقد نظر إلى مكة مودعا بكلمات تكشف عن حب عميق، وانتماء صادق، وتعلق كبير بالوطن والأرض التى ولد ونشأ فيها، وقال: «وَالله إِنَّك لَخَيْرُ أَرضِ اللهِ وَأحَبُّ أرْضِ اللهِ إِلًى اللهِ، وَلَوْلاَ أنِّى أخْرِجْتُ مِنْكِ مَاَ خَرَجْتُ» . فكيف يمكن غرس قيمة الانتماء داخل نفوس الأبناء منذ الصغر؟ وما دور الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام والجهات الحكومية والسياسية المعنية بتنمية روح المواطنة والانتماء بين الشباب، وحفظ أمن واستقرار الوطن؟ وهل انتماؤنا للوطن يتعارض مع الانتماء للدين كما تدعى بعض الجماعات الإرهابية التى ترفع شعارات دينية وتقدم تفسيرات خاطئة للنصوص لتجنيد الشباب ضد أوطانهم؟ علماء الدين يؤكدون أن الشريعة الإسلامية والأحاديث النبوية حملت الكثير من النصوص التى تحث على الدفاع عن الأوطان وحمايتها، تتجلى فى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ؛ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ». وأكد العلماء أن حب الأوطان والدفاع عنها لا يتمثل فى مواجهة الأخطار الخارجية فقط، بل إن هناك كثيرا من الممارسات التى يقوم بها البعض تعد من أبشع صور التعدى على حقوق الأوطان، كالسلبية والإهمال والفساد والتعدى على حقوق الآخرين، فجميعها جرائم ترتكب من قبل البعض فى حق الوطن، وطالبوا المؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية والثقافية، بالقيام بدورها فى ترسيخ قيم الانتماء للأوطان. مكانة الأوطان وحول مكانة الأوطان فى الأديان يقول الدكتور رأفت عثمان أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة بالقاهرة وعضو هيئة كبار علماء الأزهر، إن الإنسان جزء من وطنه يرتفع برفعته، ومن غير وطن لا يكون الإنسان قوة بذاته، والإنسان يتقوى بوطنه ويستند إليه، يدافع الوطن عنه كما يدافع هو أيضا عن وطنه، وليس الوطن ساحة من الأرض فقط يعيش عليها الإنسان وينتمى إليها ويشرف بها، إنما هو ماضى أبائه وأجداده وحاضره ومستقبله ونفسه وعرضه وماله وقيمه ومثله وثقافته وأولاده وأحفاده، فإذا أحب وطنه ودافع عنه، فإنه يحب كل ذلك ويدافع عنه. وأضاف: أن حب الوطن أمر فطرى للإنسان، بل وفى غيره، فالطيور كما نشاهدها تألف أماكنها، وإذا اضطرتها العوامل الطبيعية من طقس متغير غير ملائم لها فى بعض شهور السنة، فإنها تغادر مضطرة ثم تعود إلى ما ألفته من مكان، والرسول صلى الله عليه وسلم، لم يكن يحب أن يغادر وطنه مكةالمكرمة، ولولا أن قومه أخرجوه منها ما خرج، كما صرح بذلك صلى الله عليه وسلم، وعندما استقر فى المدينةالمنورة عقد معاهدة مع اليهود، بمقتضاها يشترك المسلمون واليهود فى الدفاع عن الوطن، والإنسان لا يدافع عن شيء إلا إذا كان محبا له مريدا لبقائه سالما من كل نقص. والمسلم على وجه الخصوص، لا يكون آمنا على نفسه ودينه وعرضه وماله إلا فى وطن يحبه ويدافع عنه، عندما يدعو الداع إلى ذلك، ويجب أن ننشئ أولادنا على حب الوطن، وأن يكونوا على يقين بأنهم قطعة منه، لا تنفك عنه، يتأثرون بالوطن، كما يتأثر الوطن بهم، فكلما ارتفعت مكانته ارتفعوا معه، وكلما كان الوطن سعيدا سعدوا هم أيضا بسعادته، فنحن والوطن شيء واحد. أمانة ومسئولية وفى سياق متصل، يقول الدكتور طه أبو كريشة، عضو هيئة كبار علماء الأزهر، إن حقوق الأوطان أمانة ومسئولية، وكل إنسان مطالب بأن يؤدى حق الوطن على أكمل وجه، كما أن الوفاء بهذه الحقوق يأتى فى أولوية الأمور التى يُسأل عنها الإنسان. والوفاء خلق من أخلاق الإسلام وعهد مع الله تبارك وتعالي، ويجب أن يلتزم به المسلم فى كل مجالات الحياة، وذلك تطبيقا لقوله تعالي:«وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ»، وهذا الوفاء لحق الأوطان، يأتى فى مقدمة كل الحقوق التى يجب الوفاء بها، لأن الوطن بالنسبة لأى إنسان هو المكان الذى استقبله على ظهر هذه الأرض من وقت ولادته وما يتلو ذلك من سنوات العمر، وهو المكان الذى احتوى الجسد والنفس والعقل، وتحققت من خلاله آماله، فأصبح مكونا أساسياً من مكونات حياته، ومن هنا تأكد القيام بحق هذا الوطن الذى يعيش فيه، ولا تستقيم حياته إلا من خلال أداء هذا الحق تجاه الوطن، من حيث الأمن والاستقرار والتنمية والتقدم لكل من يعيش على تراب هذا الوطن، فإذا تخلف حق من هذه الحقوق، فإن ذلك يعد خيانة للأمانة، التى وضعت فى أعناقنا جميعا، والخيانة من أكبر الآثام التى يجب الابتعاد عنها، ووفاء الإنسان لحقوق وطنه هو مظهر من مظاهر الإيمان الصادق بالله عز وجل. واجب ديني وأكد الشيخ جابر طايع، رئيس القطاع الدينى بوزارة الأوقاف، أن حماية الأوطان والدفاع عنها واجب على كل إنسان ينعم بالعيش فيها، وحماية الأوطان ليست مقتصرة أو النيل منها، أو الإفساد فيها، أو الكيد لأهلها، أو ترويع أبنائها، بل على العكس من ذلك، فإنه ينبغى العمل على النهوض بها، وبنائها فى كل المجالات، ولا يتحقق ذلك إلا بالعمل الجاد وزيادة الإنتاج، ولن تتحقق حماية الوطن اقتصاديا، إلا بتضافر الجهود، ومنع كل صور الغش والاحتكار، لأنها أمور تتنافى مع الدين والخلق والوطنية، التى تقتضى أن يرعى الناس حقوق بعضهم البعض، كذلك يجب ترشيد الإنفاق والاستهلاك، وعدم الإسراف والتبذير، وضرورة التحلى بالايجابية فى كل ما من شأنه خدمة الوطن، وهذا يتطلب مواجهة الإفساد والفساد والتخريب. ظواهر مرفوضة وطالب الدكتور علوى أمين الأستاذ بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، بمواجهة جميع صور التعدى على حقوق الأوطان، ومنها الفساد والرشوة والمحسوبية والتعدى على حقوق الناس، أو الاستيلاء على أراضى الدولة، لأن هذه السلبيات تعد كالسرطان الذى ينهش فى جسد الإنسان، وذلك بتغليظ العقوبة فى حال التعدى على ممتلكات الدولة، لأن هذه الممارسات تصيب الناس بالسلبية، كذلك لابد من مواجهة كل صور الإهمال والتراخى فى العمل، لأن الوطن حاليا فى حاجة للجهد والعرق والإنتاج، وأن يستشعر الجميع مدى حاجة الوطن للبناء والتعمير وليس الهدم والتخريب. دور المؤسسات من جانبه، طالب الشيخ أحمد ترك مدير عام التدريب بوزارة الأوقاف، المؤسسات التعليمية والشبابية والثقافة والدينية، بالقيام بدورها فى ترسيخ قيم الانتماء للأوطان، وتصحيح المفاهيم الخاطئة لدى بعض الشباب المغرر بهم، والتأكيد أن أمن واستقرار الأوطان مقدم على كل الأولويات، لأن هناك كثيرا من الممارسات السلبية التى يقوم بها البعض كالتعدى على حقوق الوطن والمواطنين، وهذه الممارسات الخاطئة تحتاج إلى توعية لأن البعض قد يقوم بها دون أن يدرك تأثيرها السلبى على المجتمع، ولابد أن تكون هناك ندوات فى مراكز الشباب وقصور الثقافة، لتأكيد هذه القيم، ولا نكتفى فقط فى المناسبات والأعياد الوطنية، لأن الجماعات المتطرفة تسعى بكل الطرق لتشتيت الشباب، من خلال ضرب قيم الانتماء للأوطان . دور المرأة فى التوعية وأكد الشيخ أحمد ترك، أن المرأة تلعب دورا كبيرا فى ترسيخ الانتماء للأوطان من خلال تربية الأبناء على القيم والمبادئ وحثهم على التحلى بالايجابية والبعد عن التطرف، وكذلك عدم القيام بأى ممارسات تضر بعامة الناس، كما أن المرأة تلعب دورا مهما فى توجيه الأبناء للابتعاد عن أصدقاء السوء، وعدم السير وراء الشائعات التى يسعى أعداء الوطن لبثها عبر الفضائيات، والتى تثير الفتنة وتنشر الأكاذيب وتهدد استقرار المجتمع، فمن المهم جدا أن تقوم المرأة بهذا الدور التربوى والوطنى لحماية الشباب من هذه الأفكار الضالة.