واجهت الكتابات الأدبية المنشورة على صفحات «الفيسبوك» تجاهلا نقديا طوال السنوات الماضية، حتى أصبحت اليوم جزءا من الحركة الأدبية، خاصة بين شباب المبدعين الذين أصبح الفيسبوك متنفسهم الرئيسى فى ظل صعوبة النشر الورقى. ومع سهولة النشر واتساع رقعته بشكل كبير، وفى ظل خروج هذه الكتابات من دائرة اهتمام النقد تماما، اختلط الغث بالسمين، وضاع الإنتاج الجيد وسط فيضان الكتابات السطحية التى لا تصل لدرجة اعتبارها أدبا حقيقيا. لذلك فقد كان من الضرورى أن نقف على الموقع الحقيقى لهذه الكتابات على خريطة الإبداع، فاستطلعنا رأى مجموعة من المبدعين حرصنا على أن يكونوا على اتصال مباشر بهذه الكتابات، وأن يكونوا من مختلف ألوان الأدب، من شعر ورواية ونقد، كذلك كان لابد أن يضم التحقيق صوتا من أصوات الشباب الذين اعتمدوا على الفيسبوك فى نشر إبداعاتهم. وسيلة محايدة البداية كانت مع الناقد د. حسين حمودة الذى علق على الظاهرة قائلا: «أدب الفيسبوك» تعبير يمكن أن يفهم على أكثر من مستوى؛ إذ يمكن لهذا التعبير أن يشير إلى ما يتم نشره من أدب على «الفيسبوك» كما يمكن أن يتصل هذا التعبير بمشاركة إبداعية ما، تفيد من إمكانات الفيس بوك، أو قد يشير هذا التعبير إلى حضور وسيط الاتصال الجماعى هذا فى بعض الأعمال الأدبية. الفيس بوك، باعتباره وسيلة للنشر، ارتبط بوضع جديد، أصبح فيه بإمكان كل «صاحب حساب» على الفيس أن ينشر ما يريد نشره فى أى وقت.. بمساحة كبيرة من الحرية ودون محاذير كثيرة. ويتصل بهذا أن ما يتم نشره يصل بسرعة إلى من يقرؤه، فضلا عن إمكان الاستجابة السريعة أيضا لهذا المنشور ممن يقرأونه، وبذلك يمكن له أن يقطف، فورا، ثمرة كتابته، سواء كانت حلوة أو مرة، ناضجة أو غير ناضجة. فالفيسبوك يسمح بما يسمى «الكتابة التفاعلية» التى يمكن أن يشارك فيها أكثر من كاتب أو كاتبة فى عمل واحد، أحدهم يبدأ والآخر يكمل ويعود الأول ليستكمل.. وهكذا. وبهذا المعنى قد يعاد النظر فى الطابع الفردى للإبداع الأدبى نفسه، تأسيسا على هذه المشاركة الجماعية. والفيس بوك، كذلك، أصبح ظاهرة اجتماعية واضحة الحضور والتأثير على نطاق واسع يشمل كل مستخدميه، وهم بالملايين، بل أصبح جزءا من حياة بعضهم.. ونجد مثل هذا المعنى فى بعض الروايات منها رواية إبراهيم عبدالمجيد «فى كل أسبوع يوم جمعة» ورواية الكاتبة المغربية ربيعة ريحان «طريق الغرام».. وعلى بعض هذه المستويات أغرى الفيس بوك كثيرين وكثيرات بسهولة النشر وسرعته والاستجابة السريعة له.. وبهذا قاد، فى بعض الحالات، إلى نوع من «الاستسهال» الذى هو ضد معنى الأدب الحقيقي.. ولكن من ناحية أخرى قدم الفيس بوك مادة غنية للكتابة، وإمكانا جديدا للتوصيل، واختصر المسافة والزمن من جوانب عديدة.. وبهذا كله، فالفيس بوك وسيلة «محايدة» مثله مثل كل ما تتيحه التكنولوجيا الحديثة، يمكن استخدامه استخداما سيئا أو حسنا، وتظل القيمة الحقيقية للأدب، وهى قيمة باقية عابرة للأزمنة، مرتبطة بهذا الأدب نفسه، وليس بالوسيط الذى نشر من خلاله. ساعد فى اختلاط الغث بالسمين ويلتقط الشاعر سعد عبد الرحمن طرف الحديث، فيقول: الأدب أدب بقطع النظر عن الوسيط الذى يتضمنه، فهناك خصائص تجعل الكلام أدبا وهو ما يعرف لدى البعض باسم «أدبية الأدب». فسواء كان الوسيط ورقيا أو إلكترونيا فلا يؤثر ذلك على جوهر العمل الأدبي، وفى عصور ما قبل التدوين كان هناك أدب أيضا ولكنه كان محفوظا فى الذاكرة ويتم تناقله عبر وسيلة الراوية. لذلك يمكن القول باطمئنان إن خلود الأدب مهما كان الوسيط الذى يتضمنه مرتبط بصدق هذا الأدب «صدقا فنيا» فى التعبير عن النفس (الفردية والاجتماعية) بطريقة جمالية. والفيس بوك مجرد وسيط، قد يكون سببا من أسباب انتشار ما يكتب من كلام سواء كان الكلام أدبا أو كلاما عاديا، ولكنه مازال وسيطا لا يحسن الكثيرون استثمار إمكانياته فى نشر الأدب، كما أنه، لغياب أداة فرز ملائمة، ساعد فى اختلاط الغث بالسمين بل أعطى للغث من الكلام فرصة للانتشار، و ليس هناك نموذج أدبى حقيقى حتى الآن بدأ من الفيس بوك وأصبح له كتاب مطبوع. أدب غير حقيقى ولا يختلف رأى الروائى والقاص د. محمد إبراهيم طه عن رأى سابقيه من المتخصصين بالأدب، فيضيف: الأدب المنشور على مواقع التواصل الاجتماعى هو أدب غير حقيقى. وأنا أرى أن معظم من يكتبون الأدب على صفحاتهم إنما يكتبون نوعا من الخواطر. فمعظمهم من الهواة الذين دفعهم إلى الكتابة وجود وسيط إلكترونى سهَّل لهم عملية النشر. وهذه الكتابات تقترب فى مستواها أحيانا من الكتابات الأدبية، لكنها تبتعد كثيرا فى معظمها. وهى بالفعل تجد مساحة من التفاعل، لكنى أظن أنه تفاعل كاذب، لأن الكثيرين يتفاعلون مع هذه الكتابات دون قراءة، ولكن لمجرد إثبات المرور على صفحة صديق، علاوة على أن هذا ليس تقييما حقيقيا، وهكذا فقد تسبب هذا النشر فى «ربكة» لكنها لم تؤثر على قيمة الأدب الحقيقى المنشور فى الكتب. والإيجابية الوحيدة من هذا النوع من النشر هو وجود وسيلة لنشر قصص أو فصول من روايات لكتاب يكتبون أدبا حقيقيا، ولايزال الوجود الحقيقى للكتاب منحصراً فى الكتب المطبوعة والمنشورة، واعتدنا فيمن يكتبون القصة والرواية أن يستكملوا أعمالهم ثم يبدأون فى نشرها، ولا ينشرون مقتطفات منها إلكترونيا إلا بعد أن يكونوا، غالبا، قد حجزوا مكانا لها فى دور نشر معتمدة، لأن النشر الإلكترونى يسهل السرقات الأدبية، وهكذا فأنا لا يحضرنى اسم كاتب حقيقى يدين بفضل نشر أعماله لهذه المواقع. وأظن أن الحركة الأدبية الحقيقية تحتفظ بمكانتها، وتحترم فعل الكتابة وإخراج الكتاب والتدقيق اللغوى، بينما يفتقد «أدب الفيسبوك» للطريقة الصحيحة فى الكتابة، فيمتلئ بالأخطاء الإملائية واللغوية والنحوية والأسلوبية، ويخلو من علامات الترقيم، والنظرة الوحيدة التى يمكن أن أنظر بها لهذه الكتابات هى أن تكون «ورشة» يصقل فيها الكاتب موهبته قبل أن يبدأ فى نشر هذه الأعمال فى كتاب. فائدة كبيرة لا تخلو من السلبيات وتختلف نظرة شباب الكُتَّاب الذين ينشرون إنتاجهم عن طريق الفيسبوك عن نظرة كبار الكتاب، فتقول القاصة عبير درويش: «أدب الفيسبوك» ليس ظاهرة وقتية عابرة، بل لقد ساهم بشكل كبير فى فتح الأبواب للكتاب الجدد ولدور النشر المختلفة وأيضا لكبار الكتاب فى زيادة التواصل دون عوائق، ولكن هذه الكتابات لا تصنف كنوع أدبى، إنما هى طريقة لتقديم الإنتاج الأدبى بعيدا عن الاحتكار الفكرى، وفضاء مفتوح لكل التوجهات على أوسع نطاق وتتلقاها جميع الفئات، فأنا بدأت بنشر بعض النصوص عام 2011 على استحياء، فلاقت تشجيعا كبيرا، وبعض الانتقادات لبكارة التجربة، ثم تطورت الفكرة وتكونت أول حصيلة لكتابى الأول «زهرة اللانتانا»، والذى تواصلت مع دار النشر التى طبعته عبر الفيسبوك أيضا، ثم أصدرت كتبا كانت كلها تجارب أكثر نضجا للنشر عبر الفيسبوك، منها مجموعة «حدود الكادر» التى سأشارك بها بمعرض الكتاب 2017. وعبر الفيسبوك أيضا نشرت إنتاجا فاز بعدة جوائز فحصلت على المركز الثانى عن مؤسسة «عماد قطرى» وجائزة نادى القصة 2015، وجائزة «صلاح هلال»، وأعتقد أن «أدب الفيسبوك» لن يختفى، ولكن من الممكن أن يدخل طور التحديث بشكل يؤدى إلى تلاشى السلبيات التى نقر بوجودها، كالسرقات الأدبية وضعف الكتابة، وغياب الرقابة الأخلاقية، وإن كانت هناك صفحات أدبية توعوية تهتم بحقوق المؤلف قانونيا وأدبيا، وتنشر مجريات الأحداث السلبية والإيجابية الخاصة بدور النشر، مثل صفحة «ثورة التصحيح الأدبى» على سبيل المثال.