فى 30 سبتمبر من العام الماضي، وفى لحظة حرجة وفارقة بدا فيها أن قوى الظلام ابتلعت سورياوالعراق، أعلنت موسكو بدء ضرباتها على الارهابيين فى سوريا، ورغم أنها سحبت بعضاً من قواتها الرئيسية وأعادتها لأراضيها فى مارس الماضي، فإن عملياتها للقضاء على الارهاب لم تتوقف على مدى العام بما تبقى من القوات، لتتسارع التطورات فى الداخل السورى وعلى الصعيدين الإقليمى والدولى وتشكل فى مجملها مشهدا مختلفا كثيراً لسوريا والمنطقة عن ما كان عليه الحال قبل عام مضي. فمن ناحية، كان للتدخل الروسى تأثير مباشر فى إبعاد شبح «أفغنة سوريا» الذى كاد أن يكون واقعاً، وحال دون تكرار المأساة الأفغانية فى عالمنا العربي. فمنذ اللحظة الأولى كان واضحاً جدية وفاعلية الضربات الروسية، وأنها طلعات حقيقية تستخدم فيها أحدث التقنيات العسكرية، وليست عروضا استعراضية كطلعات دول أخري، مما أدى إلى تقهقر «داعش» التى سيطرت على الأراضى السورية ومن قبلها العراقية فى طرفة عين، وعلى مرأى ومسمع القوى الدولية التى طالما ادعت أنها تحارب الارهاب. ووفقاً لتقديرات وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) فى 16 مايو الماضى فإن التنظيم فقد 45% من المناطق التى كان يسيطر عليها فى العراق، ونحو 20% من الأراضى تحت سيطرته فى سوريا، وتتضمن الأخيرة مناطق حيوية وأثرية عدة منها ريف اللاذقية وتدمر وغيرهما. إلى جانب تقويض مصادر تمويل التنظيم من خلال التدمير المباشر لأكثر من 2000 شاحنة تابعة للتنظيم لنقل النفط المسروق وبيعه لتركيا أو عبرها. ومن ناحية أخري، أدت الضربات الروسية إلى تغيير توازنات القوى على المستويات المختلفة، السورية والإقليمية والدولية. فنهضت الدولة السورية من جديد، وأضطر الجميع إلى العودة لطاولة المفاوضات بعد أن تأكد استحالة الحسم العسكرى للأزمة، وأن التسوية السلمية هى السبيل الوحيد لإنهائها. وشهدت التحالفات الإقليمية تطورات مهمة حيث دفع التنسيق الذى تقتضيه الضربات الروسية إلى ظهور محور مهم يضم روسياوإيرانوسورياوالعراق إلى جانب حزب الله فى لبنان.فقد اتجهت روسيا لتعميق تحالفاتها الرئيسية فى المنطقة من خلال مثلث «روسياسورياإيران» الذى تعد دمشق نقطة الارتكاز الأساسية فيه والحليف الاستراتيجى الأساسى لموسكو وذلك فى ضوء خصوصية العلاقة بين البلدين. تزامن هذا مع تعميق التعاون الاستراتيجى الروسى الإيراني، على خلفية الاجتماع الثلاثى بين وزراء دفاع الدول الثلاث الذى استضافته طهران فى 9 يونيو لبحث التنسيق فى مجال مكافحة الإرهاب والتخطيط العملياتى والعمل العسكرى فى سوريا لمحاربة تنظيمى «داعش» و«جبهة النصرة». أعقب ذلك السماح للقاذفات الروسية باستخدام قاعدة همدان الإيرانية لشن هجماتها على مواقع الارهابيين فى سوريا، والذى اعتبر تطورا نوعيا فى مستوى التعاون الاستراتيجى بين البلدين رغم قصر مدته. كما فرضت التطورات المختلفة على تركيا ضرورة التنسيق مع موسكو وإنهاء حالة التوتر والقطيعة التى خيمت على العلاقات بين البلدين عقب إسقاط أنقرة الطائرة الحربية الروسية فى نوفمبر من العام الماضي، ساعد على ذلك موقف روسيا من المحاولة الانقلابية فى تركيا، لتنتقل الأخيرة من المعسكر المناهض لروسيا فى المنطقة إلى نقطة ما وسط بين المعسكرين دون أن تخرج بالكامل من العباءة الأمريكية. فقد تخوفت أنقرة من أن يكون التقدم الذى حققته قوات «سوريا الديمقراطية» بقوامها الكردي، خطوة أولى نحو إعلان الفيدرالية فى المناطق الكردية السورية، وما ينطوى عليه ذلك من تهديد سلامتها الإقليمية حيث يمثل الأكراد نحو 20% من سكانها يتركزون فى جنوب وجنوب شرق تركيا المتاخم للأراضى السورية، واتخذت من ذلك ذريعة لبدء عملية عسكرية فى الأراضى السورية، »عملية درع الفرات«، فرضت التنسيق مع روسيا لتجنب صدام آخر ستكون عواقبه وخيمة خاصة بعد نشر موسكو منظومات «أس 400»، التى تعد الأقوى فى العالم، فى سوريا. ولعل الدلالة الأهم التى يحملها تقييم العمليات الروسية على مدى العام، هى تلك المتعلقة بمكانة روسيا الدولية ودورها الحاضر والمستقبلى فى منطقة الشرق الأوسط، فقد أسس التدخل الروسى فى سوريا لوجود روسى دائم وقوي، ودور فاعل ومؤثر لموسكو فى الشرق الأوسط، فالوجود الروسى فى سوريا ليس حدثاً عابراً أو استثنائياً فى السياسة الروسية ولكنه توجه استراتيجى له صفة «الديمومة» والثبات، خاصة مع تأكيد موسكو عدم وجود سقف زمنى لعملياتها فى سوريا، وأن إنهاء مهمتها مرتبط بنجاحها فى القضاء على الارهاب وتحقيق الأهداف المرجوة، التى تظل مسألة تقديرية للقيادة الروسية. لقد أصبحت روسيا طرفاً لا يمكن تجاوزه فى أى ترتيبات خاصة بالمنطقة، وحمل تدخلها فى سوريا رسالة واضحة حول شكل النظام العالمى الجديد، وانتهاء مرحلة القطبية الواحدة والانفراد الأمريكى فى إدارة الشأن الدولى والإقليمي، وأكد أن واشنطن مع استمراراها كفاعل «رئيسي» بالمنطقة فإنها لم تعد الفاعل «الأوحد» بها كما كان عليه الحال من قبل. فقد حجم الحضور الروسى القوى من المنظور الأوحد الضيق فى إدارة قضايا وملفات المنطقة وفق الأجندة والمصالح الأمريكية، وقدم بدائل واسعة الأفق تتسع لمختلف الأطراف دون استبعاد أو تهميش يكرس الخلافات الداخلية ويعزز الاستقطابات الإقليمية. ولا يعنى هذا عودة الحرب الباردة من جديد، فعودة روسيا إلى المنطقة تأتى فى إطار منظور تعاونى وغير تنافسى مع القوى الكبرى الأخرى الفاعلة بها وفى مقدمتها الولاياتالمتحدة. وموسكو حريصة على التفاهم والتعاون مع واشنطن والأوروبيين رغم استمرار الخلاف والتوتر بين الجانبين على خلفية الأزمة الأوكرانية. إلا إن هذا الحرص من الجانب الروسى لا يقابله خطوات مماثلة من جانب الولاياتالمتحدة، التى تبدو أميل إلى إضعاف داعش دون القضاء التام عليها، ليس فقط لأنها من ساعد على ظهورها ودعم تمددها فى العراقوسوريا، ولكن لحاجة واشنطن إليها لتنفيذ مخططاتها فى المنطقة. إن المراوغة الأمريكية والتنصل من تنفيذ الاتفاقات التى تم التوصل إليها مع موسكو يظل تحديا رئيسيا يواجه الأخيرة فى حربها وحرب المنطقة بأسرها ضد الارهاب، ويجعل القضاء على هذه التنظيمات أكثر تكلفة وأطول أمداً. إلا إن هذا لن يثنى روسيا عن المضى قدماً فيما بدأته قبل عام حتى يتحقق الأمن والاستقرار فى سوريا والمنطقة بأسرها. لمزيد من مقالات د. نورهان الشيخ