كشفت المناظرة الأولي بين مرشحي الرئاسة الأمريكية عن عمق الأزمة التي تواجه الدولة »الأعظم« في العالم، حتي أن ترامب قد كشف بقسوة عن الجراح الأمريكية الغائرة، وقال إننا دولة مفلسة، ديونها تجاوزت 20 ترليون دولار، وأصبحنا أقرب لدولة من العالم الثالث، ولم تنكر هيلاري كلينتون الوضع الأمريكي الصعب، بل اعترفت بتنامي ظاهرة التفرقة العنصرية، وقالت إنها أخطر تهديد يواجه أمريكا، لكن أكثر ما لفت النظر هو أن كلا من ترامب وهيلاري لا يمتلكان مقومات الزعامة، وأنهما تعبيران إضافيان عن شيخوخة الدولة الأمريكية. علي الجانب الآخر كانت إدارة الرئيس الأمريكي أوباما تدير معركة دبلوماسية وحربا إعلامية صعبة مع روسيا، علي خلفية استئناف الضربات الروسية والسورية للجماعات المسلحة المحاصرة في شرق حلب، بعد أن عجز الاتفاق الثنائي بين موسكووواشنطن عن إيجاد مخرج، لتباعد وجهات النظر والمواقف تجاه الحل المطروح للأزمة السورية، وبلغت الحملة ذروة غير مسبوقة، حتي إن وزير الدفاع الأمريكي كارتر أعلن أن الحرب النووية أصبحت أقرب من أي وقت مضي، بينما قال وزير الخارجية جون كيري إن الاتفاق الروسي الأمريكي علي وشك الانهيار، وواصلت أمريكا وحلفاؤها الأوروبيون محاولات الضغط علي روسيا في مجلس الأمن، بطرح مشروع قرار ينص علي تفعيل الهدنة في حلب لدواع إنسانية، وسط اتهامات لروسيا باستخدام أسلحة محظورة، وارتكاب مجازر وحشية وبربرية، ولم تتوقف الحملة عند هذا الحد، بل تخطتها إلي التلميح بتزويد الجماعات المسلحة في سوريا بصواريخ مضادة للطائرات، وأن الجماعات المسلحة سوف ترد بمهاجمة المصالح والمدن الروسية، لكن الكرملين رد علي الحملة ووصفها بأنها »تصريحات خرقاء«، وذهب مسئول بالخارجية الروسية إلي حد وصف الدبلوماسيين الأمريكيين بأنهم »فقدوا أعصابهم«، وأنها دليل جديد علي العلاقة العضوية التي تربط الولاياتالمتحدة بالجماعات »الإرهابية«. هكذا وصل الصدام الكلامي والدبلوماسي إلي ذروته، ولكن هل يمكن أن يتجاوز تلك الحدود؟ أم سنري صدامات علي الأرض؟ أوباما قال إنه لن يرسل أي قوات برية إلي سوريا، وكانت أمريكا قد قدمت إعتذارا غير رسمي للحكومة السورية عقب قصف المواقع العسكرية السورية في دير الزور، ووعدت بعدم تكرار الخطأ، أما احتمال تزويد المسلحين بصواريخ مضادة للطائرات فهو سلاح ذو حدين، ومخاطرة أمريكية جسيمة، قد تلحق الضرر بأصدقائها وأعدائها معا، وتفتح آفاقا أوسع للعمليات الإرهابية في المنطقة وأوروبا. لم يكن أماما أوباما إلا أن يطلب من وكالات الأمن القومي الأمريكية بحث جميع الخيارات الممكنة، لكن هذه الخيارات أصبحت محدودة، وهي إما الوقوف بشكل مباشر وعلني إلي جانب الجماعات الموصومة بالإرهاب، أو التسليم بأن التحالف الروسي السوري الإيراني يكسب الحرب في سوريا، والخياران كلاهما مر، وبالتالي لا مفر أمام الإدارة الأمريكية الحالية إلا العودة للتباحث مع روسيا، لمحاولة إيجاد حل مقبول. يبدو أن الولايات لم تكن تريد من الهدنة أكثر من مجرد تمرير الوقت، والإبقاء علي أوضاع الجبهات دون تغيير، ولهذا أرادت فقط السماح بتزويد المحاصرين في شرق حلب بالمساعدات، والتسويف في تنفيذ باقي الخطوات التي طلبها الجانب الروسي، والمتعلقة بالفصل بين الجماعات التي تراها واشنطن إرهابية، والأخري التي تراها معتدلة، وهو مطلب تدرك أمريكا أنها لن تستطيع تحقيقه، بل لا تريده، لما سيترتب عليه إضعاف الجماعات المسلحة، وهو ما يخل بموازين القوي لصالح التحالف الروسي السوري الإيراني، خاصة بعد أن عجزت عن الاستمرار في توظيف الأكراد كبديل علي الأرض لجماعتي داعش والنصرة، بعد التدخل العسكري التركي، فانسحب الأكراد إلي شرق الفرات، ولم تفلح الجهود الأمريكية من التوفيق بين تركيا والأكراد، واختارت التضحية بالأكراد. وفي أول بادرة علي المماطلة الأمريكية قررت روسيا أن تشارك القوات السورية في اقتحام شرق حلب، ضاربة عرض الحائط بالحملات الدبلوماسية والإعلامية الأمريكية، لأنها تدرك محدودية الخيارات أمام إدارة أمريكية لم يعد بمقدورها اتخاذ خيارات استراتيجية قبل أسابيع من الانتخابات الرئاسية الأمريكية. لا يبدو أن بمقدور إدارة أوباما أن تنقذ المسلحين المحاصرين شرق حلب، وبات التحالف الأمريكي عاجزا عن كسب الحرب في سوريا، وعاجزا أيضا عن طرح مخرج مقبول لحل سلمي، وأن العمليات العسكرية سوف تتواصل ضد الجماعات المسلحة، لترث الإدارة الأمريكية الجديدة وضعا سيئا لمخططها في سوريا، أشبه بالوضع الذي تسلمه أوباما من جورج بوش في العراق، وأن الإدارة الأمريكية تنتقل من فشل إلي فشل، مخلفة وراءها الكثير من الدمار والضحايا. ولم تنس إدارة أوباما أن تكافئ أقرب حلفائها في دول الخليج بقانون المحاسبة عن ضحايا 11 سبتمبر، والذي يتيح لأسر الضحايا مقاضاة الحكومة السعودية للمطالبة بتعويضات قد تفوق كل الأصول والأموال التي تمتلكها السعودية، وكأن أمريكا لم يعد أمامها إلا أن تأكل لحم الحلفاء، بعد أن عجزت عن الإنتصار علي خصومها، وهي بذلك تزيد من أعباء الإدارة الجديدة، التي عليها إما أن تعترف بأنها لم تعد القوة العظمي الوحيدة، وأنها شاخت ووهنت، وترضي بموازين القوي الجديدة، أو تستجمع كل أسلحتها وتخوض مغامرة مسلحة جديدة، وتدمر العالم فوق الجميع. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد