أخبار مصر اليوم.. رئيس الوزراء يفتتح مستودع موانئ دبي العالمية    أول تعليق من محمد سلام بعد مشاركته في احتفالية «وطن السلام»: عاشت فلسطين حرة عربية (فيديو)    مدبولي: منطقة قناة السويس الاقتصادية جذبت استثمارات بقيمة 11 مليار دولار.. وأنشأنا 82 جامعة في 10 سنوات    الصين تقرر تأجيل قيود تصدير المعادن النادرة لمدة عام    لافروف: دعوات وقف إطلاق النار في أوكرانيا هدفها كسب الوقت لصالح زيلينسكي    الجيش الإسرائيلي يقول إنه قضى على تاجر أسلحة في عمق لبنان    توتنهام يكتسح إيفرتون بثلاثية نظيفة في الدوري الإنجليزي    وزير الشباب والرياضة يتلقي خطابًا من رئيس الكونفدرالية الإفريقية للمصارعة بشأن الجهود الدولية لمكافحة التجنيس    محمد عبد الجليل يكتب: فضيحة التجسس الصحفي.. "الديلي ميل" ترسل "عملاء" في زي سائحين لتصوير المفرج عنهم من السجون الإسرائيلية.. ومحاولة خبيثة لتصوير القاهرة ك"عاصمة الإرهاب"!    تبة الشجرة تستقبل فرق مهرجان الإسماعيلية الدولي للفنون الشعبية ضمن فعاليات الدورة الخامسة والعشرين    مهرجان القاهرة للطفل العربي يطلق دورته الثالثة 10 نوفمبر    عرض مسلسل «جولة أخيرة» بطولة أحمد السقا على mbc.. قريبًا    محافظة المنيا تحقق الترتيب الرابع على محافظات الجمهورية في ملف التقنين    الأرصاد تكشف توقعات حالة الطقس وفرص الأمطار المتوقعة غدا بمحافظات الجمهورية    وزير المالية: إعطاء أولوية للإنفاق على الصحة والتعليم خلال السنوات المقبلة    الكوكي يعلن تشكيل المصري لمباراة الاتحاد الليبي بالكونفدرالية    الوزير وأبوريدة معًا فى حب مصر الكروية    5 أبراج تهتم بالتفاصيل الصغيرة وتلاحظ كل شيء.. هل أنت منهم؟    نقابة الصحفيين تحتفل باليوم الوطني للمرأة الفلسطينية.. والبلشي: ستبقى رمزا للنضال    ضبط المتهم بإصابة 3 أشخاص في حفل خطوبة بسبب غوريلا.. اعرف التفاصيل    طاهر الخولي: افتتاح المتحف المصري الكبير رسالة أمل تعكس قوة الدولة المصرية الحديثة    هل رمي الزبالة من السيارة حرام ويعتبر ذنب؟.. أمين الفتوى يجيب    وزير الصحة يبحث مع جمعية أطباء الباثولوجيا المصريين في أمريكا تعزيز التعاون في التعليم الطبي والبحث العلمي    البابا تواضروس يكلف الأنبا چوزيف نائبًا بابويًّا لإيبارشية جنوب إفريقيا    وزير الخارجية يتابع استعدادات افتتاح المتحف المصري الكبير    بسبب خلافات بينهما.. إحالة مدير مدرسة ومعلم بالشرقية للتحقيق    الهجرة الدولية: نزوح 340 شخصا بولاية شمال كردفان السودانية    محافظ المنوفية يتفقد عيادات التأمين الصحي بمنوف    القوات المسلحة تدفع بعدد من اللجان التجنيدية إلى جنوب سيناء لتسوية مواقف ذوي الهمم وكبار السن    إطلاق مبادرة "افتح حسابك في مصر" لتسهيل الخدمات المصرفية للمصريين بالخارج    محافظ المنوفية يتفقد إنشاءات مدرسة العقيد بحري أحمد شاكر للمكفوفين    تجهيز 35 شاحنة إماراتية تمهيدًا لإدخالها إلى قطاع غزة    مستوطنون يهاجمون المزارعين ويسرقوا الزيتون شرق رام الله    مقتل شخصين وإصابة ثمانية آخرين جراء هجمات روسية على منطقة خاركيف    محمود عباس يصدر إعلانًا دستوريًا بتولي نائب الرئيس الفلسطيني مهام الرئيس «حال شغور المنصب»    كنز من كنوز الجنة.. خالد الجندي يفسر جملة "حول ولا قوة إلا بالله"    الأمن يكشف حقيقة فيديو فتاة «إشارة المترو» بالجيزة    نقابة الصحفيين تعلن بدء تلقي طلبات الأعضاء الراغبين في أداء فريضة الحج لعام 2026    لأول مرة في جنوب سيناء.. افتتاح وحدة علاج الأورام والعلاج الكيماوي بمجمع الفيروز الطبي    الزمالك يوضح حقيقة عدم صرف مستحقات فيريرا    محافظ كفر الشيخ يتفقد التجهيزات النهائية لمركز التحول الرقمي    المرشح أحمد حسام: "شرف كبير أن أنال ثقة الخطيب وأن أتواجد ضمن قائمته"    كيف تتعاملين مع إحباط ابنك بعد أداء امتحان صعب؟    الشوربجى: الصحافة القومية تسير على الطريق الصحيح    مهرجان القاهرة يهنئ أحمد مالك بعد فوزه بجائزة أفضل ممثل في «الجونة السينمائي»    منح العاملين بالقطاع الخاص إجازة رسمية السبت المقبل بمناسبة افتتاح المتحف    حسام الخولي ممثلا للهيئة البرلمانية لمستقبل وطن بمجلس الشيوخ    رئيس الوزراء يستعرض الموقف التنفيذي لأبرز المشروعات والمبادرات بالسويس    حصاد أمني خلال 24 ساعة.. ضبط قضايا تهريب وتنفيذ 302 حكم قضائي بالمنافذ    مركز الازهر العالمي للفتوى الإلكترونية ، عن 10 آداب في كيفية معاملة الكبير في الإسلام    مصدر من الأهلي ل في الجول: فحص طبي جديد لإمام عاشور خلال 48 ساعة.. وتجهيز الخطوة المقبلة    هيئة الرقابة المالية تصدر قواعد حوكمة وتوفيق أوضاع شركات التأمين    الكشف على 562 شخص خلال قافلة طبية بالظهير الصحراوى لمحافظة البحيرة    د. فتحي حسين يكتب: الكلمة.. مسؤولية تبني الأمم أو تهدمها    تداول 55 ألف طن و642 شاحنة بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    موعد بدء شهر رمضان 2026 في مصر وأول أيام الصيام    مصرع شخص في حريق شقة سكنية بالعياط    بث مباشر الأهلي وإيجل نوار اليوم في دوري أبطال إفريقيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رغم أنف الرواق العثمانى و«الصدمة العاطفية» وفواتير المطوفين
غابت السياسة واختفت شعارات الإيرانيين.. فنجح موسم الحج
نشر في الأهرام اليومي يوم 16 - 09 - 2016

دار هذا الحوار السريع بعد أن شاهدنا عبر التليفزيون أمس الاول كلمة الملك سلمان بن عبد العزيز، أمام وفود اكثر من 160 دولة ومنظمة إسلامية الذين شاركوا فى موسم الحج والتى عبر خادم الحرمين عن تثمينه لحضور هذا الجمع الاسلامى الكبير وعبر عن شكره لله وللجهود التى بذلت لإنجاح موسم الحج هذا العام ، وقد سألنى صديق أدمن أداء فريضة الحج معاتبا: ألست أنت القائل ان تنوع الطرز أضعف الحضور المعماري للحرم المكى الشريف فى مواجهة هستيريا التصميمات العصرية للفنادق والمبانى المجاورة؟
قلت: بلي !
قال: ولكنك الأسبوع الماضى اعتبرت أن تنوع الوفود فى التعبير عن فهم «لبيك اللهم لبيك» سر خلود هذا الدين الواحد ورسالته السامية
قلت: ماذا تقصد؟
قال: كيف تعتبر التنوع ميزة ثقافية ودينية وعيبا معماريا؟
قلت: رغم طبيعة الزيارة لاداء فريضة الحج والاقتصاد الشديد فى توفير المعلومات جعلت الرؤية لما يجرى من تحديث وتطوير معمارى تعتمد على المشاهدة المباشرة لما تم انجازه وربما لو توفرت لى المعلومات عن المخطط المعمارى للحرم المكى الشريف لكانت ملاحظاتى وتقييمى يتم فى اطار رؤيتى للاستراتيجية المعمارية والرؤية الشاملة لشكل هذا المكان الذى تهفو اليه افئدة الملايين من الناس ، وهذا العام ليس لدى مانع فى التراجع عما قلته العام الماضى بسبب ما أتيح لى من خبرة سابقة ومشاهدات على الواقع بعد اكتمال وافتتاح التوسعة الجديدة التى تحمل اسم الملك عبد الله بن عبد العزيز، فقد لاحظت ان التوسعات التى حدثت منذ عهد الملك المؤسس عبد العزيز واخذت شكلها النهائى فى عهد الملك فيصل يرحمهما الله كانت تعتمد على تأكيد السيطرة البصرية الأفقية للطابع العربى المعمارى على منطقة الحرم الشريف بمكة المكرمة، فبدت هذه التوسعات تحديا مسيطرا وطاغيا فى بعض الاحيان على شكل الرواق الذى بنى لفرض الذوق التركى وتأكيد الاحتلال والسيادة العثمانية على الولايات الاسلامية، وإن كانت تلك التوسعات فى حينها غير متنافسة مع الرواق العثمانى بل ومنسجمة معه فى العديد من التفاصيل، اما التوسعات العملاقة التى بدأت فى عهد الملك فهد ثم تلقت دعما قويا بالتوسعة العملاقة التى تمت فى عهد الملك عبد الله ثم اخذت زينتها واكتمل افتتاحها فى عهد خادم الحرمين الحالى الملك سلمان بن عبد العزيز فقد اكدت عدة حقائق فنية أسوقها فى إطار التقرير التالى عن موسم الحج الذى انتهت ذروته منذ ساعات :
- اولها ان التوسعتين وان اختلفتا فى بعض التفاصيل الذى يؤكد ان كل منهما قد تم فى عصر مختلف يفصل بينها اكثر من خمسة عشر عاما، فمن الطبيعى ان يكون لكل عصر بصمته وشكله بما يحقق التنوع فى اطار تفرد الطابع المعمارى للحرم على مستوى العمارة الاسلامية فى العالم كله وقد شكلت التوسعتان دفعة جبارة لها تضاف الى المدرسة الطولونية والفاطمية- فى مصر والمغرب العربى- والعلوية والخديوية فى مرحلة مصرية تالية والمحلية - نسبة الى تاج محل- فى الهند والحرم النبوى فى المدينة المنورة التى تفاوتت فيما بينها فى شكل ضخامة القباب وبراعة النقوش وتعقيدات السقوف ودقة والمآذن .المدببة المسلية.
- ثانيهما: تكمن اهمية التوسعتين وسط التطور العمرانى المدنى فى منطقة الحرم فى انهما تمتا وفق رؤية سياسية تقوم على ان الاهتمام والاولوية الدينية القصوى لتوسعة الحرم المكى لم تأت على حساب الاهتمام بالحياة المدنية التى يجسدها هيستيريا العصرنة السريعة فى شكل مئات المبانى الزجاجية والخرسانية لمئات الفنادق والبراج والوزارات التى بدت شديدة البهرجة واللمعان والسرعة وأحيانا المظهرية، اما الزحف البصرى المنظم للتوسعتين على المكان، فى خلطة معمارية فريدة تمزج فى إيقاعها بين الضخامة والشموخ والتماسك فى انسيابية الزخارف الاسلامية التى تشكل بنيان الحوائط والسقوف، تجسدها الحوائط العالية والممتدة افقيا فى ثبات يؤكد الفخامة والثقل والرسوخ فى الأرض أما فروعها فتتجه إلى السماء فى شكل مجموعة من المآذن الموحدة التى تحيط بالحرم الشريف لتؤكد وحدة وعظمة الأمانة التى حملها الانسان وفرضت كلمتها على الارض والجبال وبيوت مكة القديمة والأبراج الحديثة - بما فيها برج الساعة الغربى الطابع - من حولها.
ثالثهما: رغم اننى من اشد المؤمنين انه ينبغى ان تكون لكل عصر بصمته خاصة اذا كان الأمر يتعلق برسالة التوحيد التى جاءت لخير الانسانية التى أشفق من ثقل مسئوليتها رب العزة على السماوات والارض والجبال وحملها الانسان العاقل الكامل محمد ابن عبد الله، وواجهت هذه الرسالة أشد ما واجهته رسالة تنوير من العنت والظلم وسوء الفهم والتشويه تحت شعار «ماالحكم إلا لله» منذ أنتفاضة الخوارج وحكم السيف على الخليفة على ابن أبى طالب حتى انتكاسة الدواعش وأمراء الإخوان وولايات الجهاد والطوائف والملل والاقليات والنحل الذين يستخدمون الآن من قبل حضارات القوة العسكرية والسيطرة الاقتصادية لكبح جماح الرسالة التى جاءت لخير الانسانية جمعاء ووقف فتحها السلمى للعقول وفتوحاتها للقلوب السوية فى غرب المعمورة وفى شرقها، أقول إننى من أشد المؤمنين بأن التراث الثقافى الذى أفرزته هذه المواجهات لا ينبغى إنكاره ودفن رءوسنا فى الرمال خجلا من مواجهته او للفكاك منه ولا مفر من الرد عليه بالافعال والاقوال، وقد نجحت «السياسة» فى السعودية هذا العام فى مواجهة ثقافية من هذا النوع، حين وقعت ايران فى فخ التجاوب مع الدعوات «الموسمية» الممنهجة لتدويل الاشراف على الحرمين الشريفين وانتهزت حادث سقوط 450 شهيدا من حجاجها فى تدافع منى العام الماضى ولم تكتف طهران بتعويضات عن ضحاياها - وهم شهداء بالفعل-وضمانات امنية ولها الحق فى ذلك ايضا مثل كل حجاج العالم بل طالبت بضمانات تتماهى مع الاشراف على التحيقات من هذا النوع وشروط تتيح لحجاجها وكل حجاج العالم رفع شعارات سياسية - وما اكثر فوضى الشعارات فى هذا الزمان- مما يقلب المناسبة الدينية وموسم الحج الأعظم للمسلمين الى ساحة للمواجهات الدبلوماسية والفوضى السياسية التى ستفضى حتما كما يهوى مرشد ايران الى محاكمة للسعودية ثم الى رغبة عالمية يمكن تسويقها غربيا بسهولة لإشراف دولى على الحج، والاشراف الدولى كما تقول سوابقه المهببة يحتاج الى قوة تضمنه وراع بيده 99 فى المائة من اوراق اللعبة، وقوات حفظ سلام تحميه ومجلس امن ينظمه ووصاية تفرض على هذا الدين لكبح جماحه كما فرضت على أديان وفلسفات وأمم من قبلنا فأبيدت بعد ان كانت تسد عين الشمس.
رابعها: اذا كانت الدولة السعودية قد نجحت فيما كان يراد لها ان تفشل فى مواجهته حين نظمت موسم حج خال من الابتزاز الايرانى والسياسة والكوارث المفجعة لأول مرة منذ سنوات عديدة، فان الانصاف يقتضى الاشارة الى عوامل واجهزة اخرى الى جانب الادارة السياسية للمواجهة مع تحديات الخارج وهى ادارة الموسم على مستوى الفكر المرورى خارج الحرم وداخله فتنظيم المواكب والبعثات وحركة السير فى مرور المدينة المقدسة يقوم على تامين المشاة اولا قبل المركبات فى المشاعر المقدسة من وإلى عرفات والى المشعر الحرام فى مزدلفة ومنه الى منى وفى الطريق الى الجمرات بحيث وصلت قوافل الحجيج المترجلين قبل وصول الحافلات فى بعض الاحيان، كما تم تأمين مسار المترجلين بلا اى تقاطعات مع طرق المركبات كما تم استخدام بعض التطبيقات الذكية التي تقدم النصائح والإرشادات للحاج كالبرامج التي تقدم خرائط مفصلة للحرم المكي أوالتطبيقات الطبية لمرضى السكري. وشعرت بوجودالرؤية المرورية التى تم تنفيذها ببراعة هذا العام لعلاج الخلل الذى كان احد أسباب كارثة العام الماضى الى جانب الشحن السياسى الايرانى لبعض الحجيج والدول والطوائف بالمنطقة - بالاضافة الى التطوير الذى حدث على أداء الامن السعودى والتقنيات الحديثة وتطوير أسلوب تعامل رجال الشرطة وكثافة توجدهم فى قلب كل تكدس محتمل.
خامسا: لعب التنظيم الجيد والاخراج البارع فى تعميق إحساس الحجيج باداء الشعائر مثل منع الحجيج من دخول مسجد نمرة على عرفات الا قبل عشر دقائق من اقامة الصلاة رغم حصار الحجيج للمسجد منذ منتصف ليلة الوقوف بعرفات والآلاف منهم قطع عشرات الكيلومترات مشيا على قدميه تجسيدا لسنة النبى الكريم وتلبية لنداء الحق للوقوف بعرفة، ورغم تزايد العدد وانتشار بعض دعاوى الملل والتيئيس للتعبير عن نفاد الصبر ورارتفاع درجات الحرارة والانفاس والرطوبة واقتراب الفجر حتى ووصول عدد المحيطين واللائذين بنمرة ما يقرب من خمسين الفا - لا توجد احصاءات وارقام قاطعة فى ذلك - لكن هذه الدعوات لم تجد اى صدى بين الجميع أمام نداءات (لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك ) ، وقد اعجبنى قبل فتح المسجد أن سرية فتح الابواب من رجال الامن السعودى مروا من بين الناس لفتح الباب قبل الآذان بعشر دقائق، فتفاءل الحجيج معهم ولبوا وكبروا ونسوا التعب الذى حل بهم وعندما فتحت الابواب التى تزيد على الخمسين واحد تلو الآخر دخل الحجيج أفواجا كثيفة من كل باب وفج عميق وقبل ان يحطوا رحالهم ويحل عليهم التعب بسبب الجو المكيف والبرودة نزل عليهم النداء بإقامة الصلاة فتحول هذا الدخول الفوضوى المتدافع الى صفوف متساوية وممتدة بعرض المسجد الذى تصل الى أربعمائة متر بامتداد البصر عن يمينى وشمالى ومن امامى ومن خلفى، وبعد انتهاء صلاة الفجر لم تمر دقائق من التهليل والتكبير والتسبيح حتى هدأت الاصوات وحلت السكينة وراحت آلاف الجموع فى نوم عميق ، حينئذ شعرت بأهم جوانب حكمة تأخير فتح الابواب لما بعد الآذان الثانى لصلاة الفجر!
اما التنظيم الجيد والاخراج البارع الذى تجلت فيه عمق الخبرة والتجربة والوعى بجلال النسك فقد جسده مشهد انطلاق النفرة من عرفات للمشعر الحرام فى مزدلفة الذى خرجت فيه عن طوع روتين المطوفين فويل للقلة من المطوفين الذين يؤدون العمل لتسديد فواتير، على حساب اى شىء بما فيها الشعائر وحق الضيف وواجبات الاستضافة، ولبيت نصيحة الزميل عادل صبرى الذى قال لى ستعرف بعد لحظات قليلة وقبل غروب الشمس سر الادمان والعشق االذى يجعل من يعيشها يدمن الوقوف بعرفات ؟
قلت: طبعا انا معك لمعرفة هذا سر هذا الادمان والعشق. وكان السر هو جلال اللحظة لحظة بداء النفرة مشيا على الاقدام ، بدأ المشهد الذى تعجز اى كلمات لى او مشاعر عن وصفه، بتطبيق السنة المشرفة لبعدم مغادرة عرفة قبل الغروب، كما نهت عن البقاء فى عرفة بعد الغروب دون البدء فى شد الرحال الى المشعر الحرام ونهت أى حاج حتى عن البقاء لصلاة المغرب فى عرفات أو واديه، وامر النص القرآنى ان «نذكر الله عند المشعر الحرام» وصلاة المغرب والعشاء جمع تأخير فى مزدلفة ، بدأ الاخراج البارع لمشهد جلال التلبية والطاعة للإفاضة قبل المغرب بربع ساعة حين أيقظت سرايا رجال الامن السعوديين بعض المعتكفين النائمين المعتكفين داخل المسجد ثم بعد دقائق رجتهم ان يخرجوا، ومنعت الحركة تماما والجلوس فى ساحات عرفات كما منعت مغادرة المكان لمن تسول له نفسه استباق مواكب المترجلين لتجنب الزحام ونادى منادو الامن : انتظر كلام الرسول اعمل بسنته ولا تتحرك قبل الغروب، فكانت النتيجة لحظة الغروب أن بدا المسجد مفتوح الابواب وخاليا تماما، وجنود الامن يرشون الماء رذاذا على الملبين ويكبروك ويلبون معهم على الابواب والآلاف على مدد البصر أصحاء وشيوخ ورجال ونساء وعجائز على عجلات مدفوعة ومحمولين وفوق الاعناق من كل الألسنة والالوان والامم، بلا اعلام او شارات سياسية ، ونادرا من يفلح منهم التمسك بمجموعته او صاحبه او بنيه او اسرته او بنى دولته التى تأويه، الكل فرادى امام جلال الخالق الجبار بدا كمشهد يوم القيامة، الكل وقوف متراصون بلا ملل ولا زهق ولا خوف ولا صوت يعلو على (لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك).. ثم تنطلق صيحة الختام الأبدية من الصدور التى يهتز لها جبل عرفات وجبل الرحمة الذى وقف عليه الرسول فى حجة الوداع وقرأ الآية الكريمة: اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينا“ وحين تقدمت من بين صفوف العابدين الواقفين - نفس السرية من رجال الامن التى سبق ان فتحت ابواب المسجد فى الفجر - لتفتح الحواجز لحظة اكتمال غروب شمس يوم عرفة راح كل جسد وروح على ظهر الارض يردد مع الخطوات الاولى لرفع الحواجز لبدء النفرة ( لبيك لا شريك لك .. لبيك) ، الم اقل لكم اننى ولا اي مبدع بالصوت والصورة والكلمة لم ولن يستطيع ان يوفى هذا المشهد حقه بعد، ربما لأنه مرتبط بالمشاعر والاحاسيس والوجدان والروح لا بالحواس فقط.
..............
وإذا كنت أنا أو غيرى قد نشعر ببعض الضعف الانسانى ، ونشعر بشيء من الضيق الذي يتجاوز الغبطة ويصل أحيانا لدرجة الحقد على بعض الفئات المدللة فى مخيمات مرفهة تجنب حجاجها الشعور بالتعب والمكابدة وتحمل مشاق الجهاد الاكبر الذى يتطلبه الحج والصوم الذى فيه مكابدة النفس عن الهوى والمتع، فإننى بقناعة تامة وبنفس راضية أشعر بتساوى كفتى الكادحين والضيوف المرفهين، وربما تفوق المترجلين بعد معايشة مشهد النفرة، رغم كرم الاستضافة التى توفر عليهم اى مجاهدة فى عرفات ولا استثنى منهم بطبيعة الحال كبار الضيوف الذين تم تسكينهم على مرمى حجر من رمى الجمرات الثلاث فحرموا من نعمة شعور الحجاج المشاة بلذة المكابدة على الطريق التى يصل طولها الى عشرة كيلو مترات ليس بها اى متع دنيوية إلا قوارير المياه وعصائر السبيل من فاعلى الخير ودورات المياه وخدمات التليفون المحمول.
ولا يقلل من كرم الخدمات والعناية بالحجيج إصابة بعضهم بعد نفرة عرفات - التى وقف فيها اكثر من مليون ونصف المليون حاج - بامراض مختلفة منهم ستة الاف أجريت لهم عمليات قلب مفتوح ، إلا ان ما أثار غيظى ان يعلن بيان وزارة الصحة السعودية الرسمى ان الاصابة بالقلب كان بسبب الصدمة العاطفية التى اصيب بها بعض الضيوف لزيارة الاماكن المقدسة!
سادسا: لعلها ماتبقى من المواءمات السياسية هى التى أبقت هذا الحصار العثمانى حول الصورة البهية للكعبة المشرفة، وخاصة بعد اكتمال جمال الطواف وراحته بعد افتتاح المطاف الجديد هذا العام الذى جعل الطواف حتى على العجائز والنساء من الدور الاول والثانى والثالث متعة وراحة وعبادة ورياضة، ومسرة للناظرين من كل الادوار على مشهد الطواف الابدى حول الكعبة المشرفة مركز الكون عكس عقارب ساعة الزمن الذى نعرفه، لولا هذا الحصار الذى يتمثل فى الرواق العثمانى الذى يحجب رؤية الكعبة ببهائها كاملة للطائفين من الدور الثانى لمسافة تصل الى ثلاثة ارباع شوط الطواف ، واذا كان الغرض من ترك الرواق ليحجب رؤية ساحة الكعبة بجلالها عن الطائفين غير المواءمة السياسية هو قيمته التاريخية فما هى الدلالة التاريخية التى نعتز بها ونتركه يحاصر اشرف بقعة على ظهر الارض فى الزمان والمكان؟
ورغم ان هذا الرواق العثمانى بقبابه الفقيرة قد بدا قزما امام الطراز الصرحى الشامخ للتوسعات المحيطة به فى عصور التحرر من التبعية العثمانية، الا ان السؤال الذى يطرح نفسه ما الذى يدعو للإبقاء على رمز من رموز الاحتلال مهما كان جنسه ونوعه فى هذا المكان الذى يعد اكبر وأعرق وأخلد من الدول والممالك والامبراطوريات مهما كانت قوتها وجبروتها، خاصة اذا كان هذا الاحتلال قد استلم امبراطورية مترامية الاطراف عام 1514 حين احتل مرج دابق قرب حلب الحالية - التى يدور الصراع حولها الآن - بعد ان ظلت هذه الامبراطورية الاسلامية لقرون عصية امام الغزاة من التتار والمغول وعجز عن قهرها جيوش قادها الاباطرة والملوك والامراء فى الحروب الصليبية ، وبعد خمسة قرون تركها هذا الاحتلال العثمانى عام 1914 «رجلا مريضا» مهينا تأكل من رأسه طيور الاحتلال وتتقاسم ثروته واراضيه ومقدساته أراذل الامم!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.