صف لي لبنا صناعيا أقدمه لابني الرضيع يا دكتور، قالتها الأم لطبيبها وملامحها توحي باليأس والقنوط، فسألها الطبيب: وهل تشكين من قلة لبن الثدي؟ قالت لا فهو متوافر، ويزيد ولكني بحكم عملي مضطرة للعودة إليه بعد 45 يوما من الولادة تاركة رضيعي للحضانة، وأمي موظفة هي الأخري كأغلب جدات هذا الزمن، ولا توجد بمحل عملي حضانة لأطفال العائلات فالقانون المصري يحتم علي كل مؤسسة تعمل بها أكثر من (مائة سيدة وهذا نادر) أن تقيم حضانة لهم ولذا (أودعه) حضانة خارجية، ونحن لسنا في أوروبا فكثير من الحضانات مع ازدحامها وقلة الرعاية الطبية فيها تكون مصدرا للمرض، ثم تخيل منظر الأم وحالها وهي تحمل رضيعها تحت إبطها وكأنه حمولة بطاطس وتمضي به قافزة بين ميكروباس وأتوبيس محشورة وسط الازدحام والأنفاس ودخان السجائر و«كوع» الركاب!! أمر يقضي علي البقية الباقية من لبن ثديها الذي كان يفيد ابنها بعد عودتها به للمنزل، وهي في ظل هذا الكفاح اليومي والمعاناة لا تستطيع ترك العمل فالمرأة المصرية تتحمل نصف التكلفة المادية للأسرة علي الأقل وتعمل ضعف الرجل، صباحا الوظيفة ومساء المنزل، وعندما أصل إلي مقر عملي في الصباح يفاجئني ألم شديد بصدري لامتلائه باللبن الذي منحه الله لابني فأستأذن بضع دقائق لأفرغ اللبن في بالوعة الحوض وقلبي ينفطر حزنا وأكاد أسمع رضيعي يبكي ويكاد يرفض بزازة اللبن الصناعي من يد المشرفة التي ترعاه فهل يرضي ذلك أحدا؟ وهل تصور القائمون علي الأمر أن أما مثلي يمكن أن تؤدي عملها علي أي وجه من الوجوه؟ لقد أوصت جمعيات طب الأطفال في كل دول العالم بأن تكون اجازة الارضاع للأم هي 6 شهور والتبرير العلمي لذلك هو الوعي الكامل بفوائد الارضاع بلبن الثدي إذ إنه هبة الخالق سبحانه للطفل وفيه تتجلي «ديمقراطية الغذاء».. فلبن الثدي يتكون بنفس التركيبة وبالنانوجرام مهما تكن نوعية أكل الأم من الكافيار، إلي الفول والطعمية! وهو يختلف عن الألبان الصناعية في أنه كائن حي.. فعلا فأنت لو وضعت نقطة من لبن الأم تحت عدسة الميكروسكوب ستذهل من حشد الخلايا المناعية التي تصول وتجول ملتهمة الميكروبات من جهاز الطفل الهضمي ودمه، ولأن سن اضافة أكلات جديدة للرضيع تبدأ من الشهر السادس فعندها ممكن أن يتناول الطفل بعض الأغذية الخارجية حتي تعود الأم من عملها، ولذا أوصي بأن تكون اجازة ارضاع الطفل ستة شهور كاملة. وأذكر انني حملت هذا الطلب إلي سيدة فاضلة كانت وزيرة للعمل والعمال، وهي بالمناسبة كانت جدة لأحفاد، فقالت لي: إن اجازة الأم بالقطاع العام ثلاثة شهور، أما الخاص فهي 45 يوما، ولكننا نخشي إذا قررنا مساواة العام بالخاص أن يحجم القطاع الخاص عن توظيف العاملات، ولهذا تلجأ الأم للارضاع الصناعي برغم أضراره المعروفة، وهي وجهة نظر عموما، وأضافت أن الدولة تمنح المرأة العاملة اجازة لرعاية الطفل مدتها سنتان!!! لا تفرح كثيرا، فهي سنتان بدون مرتب بل إن الأم تدفع تأميناتها بدلا من موقع عملها!! ومع أن رضاعة الثدي أصبحت أكثر انتشارا عن ذي قبل فانني فوجئت بمظاهرات تقطع الطريق لسيدات يطالبن بالألبان الصناعية! ووجدت الكثيرات منهن علي قدر وافر من الصحة، والصوت الجهوري المرتفع وهن يحملن أطفالا تتجاوز أعمارهم ستة شهور بكثير، وقد جعلتني هذه الصورة أوافق علي أن يكون توزيع اللبن الصناعي المدعم عن طريق أطباء مكاتب الصحة حيث يكون الطبيب هو الحكم بناء علي خمسة شروط تضعها وزارة الصحة لبيان مدي احتياج الرضيع للبن الصناعي ومنها كأمثلة ضعف الأم الشديد، والطفل المبتسر، والتوءمان اللذان تعجز الأم عن ارضاعهما معا وهذه الشروط العلمية القاسية تقطع الطريق عن كل من تقف في طريق وصول الدعم لمستحقيه من الأطفال الأبرياء. أعود فأقول لابد من اجازة مناسبة تمنح للأم المرضع وتبدأ بأربعة شهور مثلا تزيد إلي ستة شهور، وهذا الأمر سهل بالطبع في القطاع العام فالاجازة هناك دائمة، أما في القطاع الخاص فسيكون من الصعب تحمل صاحب العمل هذا العبء وهنا تتحمل الدولة نفقات مرتب فترة ارضاع للطفلين الأولين فقط. تعويضا لتوقف مرتبها بعد انقطاعها عن عملها للارضاع. ويمكن أن تدبر الدولة الاعتمادات المطلوبة من مئات الملايين التي تدفعها لدعم اللبن الصناعي الذي سوف يقل الاحتياج إليه عندما ترضع الأم ابنها رضاعة طبيعية إذن فإن دعم الأم المرضع ورضيعها، مع التوسع في انشاء حضانات في أماكن عمل السيدات والتوعية الاعلامية بالالحاح علي فوائد الرضاعة الطبيعية للطفل والأم في وسائل الاعلام هي العوامل التي تساعد في علاج مشكلة الرضاعة الصناعية وتكاليفها علي الدولة والأهل من جذورها.. د. خليل مصطفى الديوانى