لا شك أن ذكري الإسراء والمعراج مليئة بالدروس والعبر, غير أنه لا يمكن أن نحتفل بتلك الذكري المباركة دونما الحديث عن القدس الشريف. فهي أرض الإسراء والمعراج, فقد جعلها الله سبحانه منتهي رحلة الإسراء الأرضية, ومبتدأ رحلة المعراج السماوية, وقد شاءت إرادة الله أن تبدأ هذه الرحلة الأرضية المحمدية الليلية المباركة من مكة ومن المسجد الحرام, حيث يقيم الرسول عليه الصلاة والسلام, وأن تنتهي عند المسجد الأقصي. يوضح ذلك الدكتور القصبي زلط عضو مجمع البحوث الإسلامية, مشيرا إلي أن ذلك لم يكن اعتباطا ولا جزافا, بل كان بتدبير إلهي ولحكمة ربانية, وهي أن يلتقي خاتم الرسل والنبيين هناك بالرسل الكرام, ويصلي بهم إماما, وفي هذا إعلان عن انتقال القيادة الدينية للعالم من بني إسرائيل إلي أمة جديدة, ورسول جديد, وكتاب جديد: أمة عالمية, ورسول عالمي, وكتاب عالمي, كما قال تعالي: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين, وقوله: تبارك الذي نزل الفرقان علي عبده ليكون للعالمين نذيرا.. فقد نص القرآن علي مبتدأ هذه الرحلة ومنتهاها بجلاء في أول آية في السورة التي حملت اسم هذه الرحلة( سورة الإسراء) فقال تعالي سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا.والآية لم تصف المسجد الحرام بأي صفة مما له من بركات وأمجاد, ولكنها وصفت المسجد الأقصي بهذا الوصف( الذي باركنا حوله) وإذا كان من حوله مباركا, فمن باب أولي أن يكون هو مباركا. وقصة الإسراء والمعراج حافلة بالرموز والدلالات التي توحي بأهمية هذا المكان المبارك, الذي ربط فيه جبريل البراق( الدابة العجيبة التي كانت وسيلة الانتقال من مكة إلي القدس), وقد ربطها بالصخرة حتي يعود من الرحلة الأخري, التي بدأت من القدس أو المسجد الأقصي إلي السموات العلا, إلي سدرة المنتهي. وقد أورث ذلك المسلمين من ذكريات الرحلة: الصخرة, وحائط البراق. وأضاف القصبي زلط أنه لو لم تكن القدس مقصودة في هذه المرحلة, لأمكن العروج من مكة إلي السماء مباشرة, ولكن المرور بهذه المحطة القدسية أمر مقصود, كما دل علي ذلك القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. ومن ثمرات رحلة الإسراء: الربط بين مبتدأ الإسراء ومنتهاه, أو بين المسجد الحرام والمسجد الأقصي, وهذا الربط له إيحاؤه وتأثيره في وعي الإنسان المسلم وضميره ووجدانه, بحيث لا تنفصل قدسية أحد المسجدين عن قدسية الآخر, ومن فرط في أحدهما أوشك أن يفرط في الآخر. والقدس ثالث المدن المعظمة في الإسلام, فالمدينة الأولي في الإسلام هي مكةالمكرمة, التي شرفها الله بالمسجد الحرام, والمدينة الثانية في الإسلام هي طيبة, أو المدينةالمنورة, التي شرفها الله بالمسجد النبوي, والتي ضمت قبر الرسول صلي الله عليه وسلم. أما المدينة الثالثة فهي القدس أو بيت المقدس, والتي شرفها الله بالمسجد الأقصي, الذي بارك الله حوله, وفي هذا صح الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري, عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد: المسجد الحرام, والمسجد الأقصي, ومسجدي هذا. فالمساجد كلها متساوية في مثوبة من صلي فيها, ولا يجوز للمسلم أن يشد رحاله, بمعني أن يعزم علي السفر والارتحال للصلاة في أي مسجد كان, إلا للصلاة في هذه الثلاثة المتميزة, وقد جاء الحديث بصيغة الحصر, فلا يقاس عليها غيرها.وقد أعلن القرآن الكريم عن أهمية المسجد الأقصي وبركته, قبل بناء المسجد النبوي, وقبل الهجرة بسنوات, وقد جاءت الأحاديث النبوية تؤكد ما قرره القرآن, منها الحديث السابق, وحديث: الصلاة في المسجد الأقصي تعدل خمسمائة صلاة في غيرها من المساجد, ما عدا المسجد الحرام والمسجد النبوي, متفق عليه], ومنها ما رواه أبو ذر, أن النبي صلي الله عليه سئل: أي المساجد بني في الأرض أولا ؟ قال: المسجد الحرام, قيل ثم أي؟ قال المسجد الأقصي. وأشار القصبي إلي أن الإسلام حين جعل المسجد الأقصي ثالث المسجدين العظيمين في الإسلام, وبالتالي أضاف القدس إلي المدينتين الإسلاميتين المعظمتين: مكةوالمدينة, إنما أراد بذلك أن يقرر مبدأ مهما من مبادئه, وهو أنه جاء ليبني لا ليهدم, وليتمم لا ليحطم, فالقدس كانت أرض النبوات, والمسلمون أولي الناس بأنبياء الله ورسله كما قال الرسول صلي الله عليه وسلم ليهود المدينة: نحن أولي بموسي منكم. والقدس جزء من أرض فلسطين, بل هي غرة جبينها, وواسطة عقدها, والقدس عند المسلمين هي أرض الرباط والجهاد, فقد كان حديث القرآن عن المسجد الأقصي, وحديث الرسول عن فضل الصلاة فيه, من المبشرات بأن القدس سيفتحها الإسلام, وستكون للمسلمين, وسيشدون الرحال إلي مسجدها, مصلين لله متعبدين..وقد أعلم الله نبيه محمدا صلي الله عليه وسلم بأن هذه الأرض المقدسة سيحتلها الأعداء, أو يهددونها بالغزو والاحتلال, ولهذا حرض أمته علي الرباط فيها, والجهاد للدفاع عنها حتي لا تسقط في أيدي الأعداء, ولتحريرها إذا قدر لها أن تسقط في أيديهم, كما أخبر عليه الصلاة والسلام بالمعركة المرتقبة بين المسلمين واليهود, وأن النصر في النهاية سيكون للمسلمين عليهم, وأن كل شيء سيكون في صف المسلمين حتي الحجر والشجر, وأن كلا منهما سينطق دالا علي أعدائهم, سواء كان نطقا بلسان الحال أم بلسان المقال.