« كل ما تعلمته على مدار 26 عاما ينصهر هنا، لو أحبوك سيصوتون لصالحك.. الناس لا تعطى أصواتها للقضايا بل للبشر».. ربما تكشف هذه العبارة، التى وردت فى فيلم «باور» للمخرج الأمريكى سيدنى لوميت عام 1986 عن حقيقة الانتخابات الأمريكية، والتى أثبتت على مدار عقود أن شخصيات المرشحين هى العامل الرئيسى فى جذب أصوات الناخبين وليست القضايا التى يمثلونها كما يعتقد الكثيرون. فشعور الناخب بقوة مرشحه وكاريزمته وقدرته على السيطرة على زمام الأمور ربما يكون هو العامل الرئيسى فى اختيار الرئيس الجديد، ولا أدل على ذلك من السقوط المدوى للمرشح الديمقراطى بيرنى ساندرز، والذى تميز بما طرحه من أفكار وقضايا ربما تكون هى الأكثر إنسانية فى تاريخ المعارك الانتخابية. ولكنها للأسف لم تشفع له فى أوساط الناخبين الذين فضلوا عليه منافسته وزيرة الخارجية السابقة هيلارى كلينتون بغض النظر عما يلاحقها من فضائح وجدل واتهامات. ولكن مع بداية موسم المناظرات الانتخابية والمواجهات المباشرة بين المرشحين، تبدأ مرحلة الحسم وربما تغيير الموازين فى المواجهات النهائية بين المرشح الجمهورى المثير للجدل دونالد ترامب ومنافسته الديمقراطية. فالمعركة الطويلة التى بدأت قبل عامين ستحسمها بلا شك جولة المناظرات التليفزيونية والتى يحرص عليها الملايين داخل الولاياتالمتحدة وخارجها. والتاريخ يعترف بأهمية هذه الجولة والتى لعبت دورا رئيسيا فى صعود الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان إلى السلطة، بعد تفوقه على منافسه آنذاك الرئيس الأسبق جيمى كارتر عام 1980. فقد نجح ريجان آنذاك فى تحويل الدفة لصالحه وتحويل مشاعر الناخبين تجاهه، بعد أن كان يعرقل الخوف من مدى قدرة نجم هوليوود المعتزل على إدارة شئون أكبر قوة فى العالم. ولكن أداءه الرفيع وثباته الانفعالى وقدرته على مواجهة منافسه بقوة أكسبه تأييدا شعبيا واسعا وصعد به إلى البيت الأبيض، وبالطبع لا يمكن لأحد أن يستهين بخبرات ريجان التمثيلية، والتى استغلها بالتأكيد لجذب قلوب الجماهير. وفى هذا الإطار، لا يمكن أن ننكر دور مثل هذه المظاهرات فى تحويل جون كينيدى السيناتور المجهول عن ولاية ماساتشوستس عام 1960 إلى واحد من أبرز رؤساء الولاياتالمتحدة، حيث خاض أمام نائب الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون أهم مناظرة غيرت شكل المنافسات فى الانتخابات الأمريكية. فالشاب الكاثوليكى الوسيم تمكن من أن يصبح نجما فى سماء السياسة الأمريكية فى غضون 60 دقيقة فقط، هى مدة أول مناظرة رئاسية. وربما تكون مناظرة كينيدى – نيكسون هى أبرز دليل على أن القضايا وحدها لا تكفى للفوز بحب الجماهير وأصواتها أيضا، فقد نشرت مجلة «تايم» الأمريكية تقريرا حول كواليس هذه المناظرة، أكد خلالها تيد سورنسون مساعد كينيدى وكاتب خطبه الرنانة، أن فى هذه الليلة تحديدا حرص الرئيس الراحل على الاستمتاع بأشعة الشمس والحصول على لون برونزى جذاب أثناء مراجعته الدقيقة لأهم القضايا المرجح أن تسيطر على المناظرة المرتقبة، وذلك قبل أن يأخذ قسطا وافرا من النوم، ليظهر بشكل جذاب وغير مسبوق أمام كاميرات التليفزيون فى هذا اليوم تحديدا. وفى المقابل، بدا على نيكسون الإعياء والتعب بعد فترة مرض أمضاها فى المستشفى. ويؤكد سورنسون أن الملايين تابعوا هذه المناظرة، ولكن من تابعها عبر البث الإذاعى اعتقد أن نيكسون فاز بهذه الجولة، ولكن الأغلبية التى تابعت عبر شاشات التليفزيون أكدت بزوغ نجم شاب جديد فى أروقة البيت الأبيض. وهو ما حدث بالفعل. وفى العصر الحديث، وفى ظل المعركة الساخنة بين ترامب وهيلاري، لم يعد الأمر مجرد صراع على جذب انتباه الجماهير المتابعة بدقة للخطب التليفزيونية الرنانة والحملات المشتعلة على وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تعد جاذبية المظهر هى المحك كما كان الوضع فى الماضي، ولكن المهم القدرة على إبهار جمهور الناخبين بأفكار غير مطروحة لمواجهة التحديات المحلية والتصدى للتهديدات الخارجية أيضا. وأصبحت القدرة على تحديد نقاط ضعف الخصم والضغط عليها بقوة هو السبيل الأمثل للظهور وإثبات القوة على الساحة السياسية. فقد اعترف مديرا الحملات الانتخابية للجانبين بأنهما يعكفان على تحديد نقاط ضعف الخصم، والطريف أن حملة كلينتون أكدت أنها تسعى للتواصل مع الكاتب «المفترض» لكتاب السيرة الذاتية لدونالد ترامب والذى صدر تحت عنوان «فن الصفقة» فى محاولة لمعرفة المزيد من الأسرار حول ماضى ترامب كرجل أعمال مثير للجدل، فى مسعى ديمقراطى لتجسيد أسوأ مخاوف وأشباح الماضى أمام ترامب خلال أولى المناظرات الانتخابية المرتقبة فى غضون الأيام القليلة المقبلة. ولم يكتف مساعدو كلينتون بذلك، بل لجأوا أيضا لخبراء فى الصحة النفسية لمساعدتهم فى وضع استراتيجية محكمة للنيل من المرشح الجمهورى والقضاء عليه فى الجولة الأولى من معركة المناظرات الانتخابية. لقد تعدت الانتخابات الأمريكية مرحلة البحث عن القضايا والمناظرة بين الأفكار والأيديولوجيات، وهى الآن فى مرحلة اختبار الثبات الانفعالى والكفاءة فى الأداء والسيطرة على النفس. فكل من الطرفين سيسعى لكشف الآخر، ليس عن طريق التفاصيل السياسية المملة، ولكن من خلال دفعه إلى حافة الانهيار العصبى والضغط على نقاط الضعف الشخصية، لتنافس المناظرة أكثر برامج «تليفزيون الواقع» شعبية وأعلاها مشاهدة!