دأب الكثيرون منا فى أغلب الندوات والمؤتمرات التى تناقش العنف والتوتر والاقتتال الأهلى والداخلى فى البؤر الملتهبة فى العالم العربى خاصة سورياوالعراق وليبيا واليمن والصومال وغيرها، وكذلك فى جزء كبير من الكتابات الصحفية وغير الصحفية على التركيز على الدور الخارجى عموما ودور القوى الغربية خصوصا الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وفرنسا وأوروبا عامة فى تغذية عوامل التوتر والاقتتال الداخلى وتعزيز وتيرة العنف، بل واعتبار هذا الدور هو المسئول الأول عن زعزعة استقرار المنطقة ونشوب هذه الجولات من الصراع والعنف. ونادرا ما يتطرق الحديث عن مسئولية الأنظمة الحاكمة وأساليب الحكم ودور التكوينات الداخلية الطائفية والدينية والثقافية فى إطلاق شرارة هذا العنف المدمر وتحوله إلى طاقة مخربة تحرق الأخضر واليابس وتقتل الأمل فى نفوس المواطنين المتطلعين إلى حياة آمنة. ولاشك أن التركيز على الدور الخارجى الذى لعبته ولا تزال تلعبه القوى الغربية فى هذا الإطار يستند إلى حجج وحقائق قوية فى مجملها، غير أن اعتبار هذا الدور هو المسئول الأول والأخير هو بذاته ما يستحق النقد والتحليل. إن إسناد المسئولية الأولى للقوى الخارجية والعامل الخارجى فيما آلت إليه الأمور فى العالم العربى، يستند إلى ما يسمى الإزاحة أو الإسقاط، أى تحميل المسئولية للآخرين وتبرئه ذواتنا وميراثنا وتكويننا الدينى والمذهبى والطائفى من كل عيب، وذلك فضلا عن الراحة التى نحس بها عندما يكون الآخرون هم من تسبب فى هذه الفوضى العارمة، ونعفى أنفسنا ودولنا وحكوماتنا من النقد والمسئولية، ويمثل ذلك فى تقديرى نوعا من التواطؤ الجمعى على الإخفاء وحجب الاعتراف وصرف الانتباه عن الأوضاع الداخلية التى تراكمت على مدار العقود والسنين لتنتقل أوضاعنا هذه النقلة المدمرة والخطيرة وإسدال الستار عن الظروف الداخلية المحددة التى ساهمت فى وصول الأمور إلى ما هى عليه الآن. إلى جانب الدور الخارجى ودور القوى الغربية فى المشهد الراهن، فلا يمكن تجاهل طبيعة الدولة الوطنية دولة ما بعد الاستقلال والنخب الحزبية والعسكرية التى تصدرت المشهد، فهذه الدولة الاستبدادية وسواء كانت ذات توجه وطنى أو قومى فشلت فى تحقيق المساواة بين المواطنين وفى الوفاء بحقوق المواطنة وفى تلبية مطالب الجمهور العريض وأشباع حاجاته الأساسية، وفوق ذلك فإن الدولة الوطنية لم تتمكن من احتواء أو تجاوز البنى التقليدية القبلية والعشائرية والعرقية وفشلت فى ابتكار صيغة لتمثيل مصالح هذه التكوينات ومساعدتها على الانخراط فى هيكل الدولة ومؤسساتها، بل على العكس بقيت هذه التكوينات على حالها وأطلت برأسها بعد انهيار الدولة ومؤسساتها، فظهر فى العراق الانقسام المذهبى بين السنة والشيعة، بين الشمال والجنوب وظهرت العشائر وكأن الدولة الوطنية القومية كانت مجرد غطاء ليس أكثر خال من الفاعلية والتأثير فى المجتمع، مجرد سلطة فوقية معزولة عن إطار المجتمع ككل، وكذلك الأمر فى اليمن، ليبيا، حيث ظهرت الفوارق الجغرافية والقبلية والمذهبية وكأن وجود الدولة طيلة هذه العقود لم يغير شيئا. وذلك بصرف النظر مؤقتا عن العوامل التى أفضت إلى فشل هذه الدولة وإنهاكها واستنفاد قدرتها فى معارك خطط لها الغرب. وبناء على ذلك فإن فاعلية الدور الغربى والخارجى لن تكتمل ولن تمارس تأثيرها إلا إذا وجدت الأرض المهيئة لهذا الدور، وهى فى الحالة العربية فشل الدولة الوطنية وتفاقم الانقسامات المذهبية والطائفية والقبلية وظهور القابلية للتفتيت والتدخل الخارجى، حيث وجدت القوى العربية من بين ظهرانينا من يتعامل معها ويقبل بتأييدها وتسليحها له بل ويقبل اعتلاء السلطة والحكم على رماح القوى الأجنبية كما حدث فى العراق. من ناحية أخرى فإن الحديث عن دور القوى الغربية على النحو الذى أسلفنا الإشارة إليه يفتقد رغم الحقائق التى يستند إليها إلى الوضوح ومعرفة السنن الكونية فى الصراع على النفوذ والهيمنة، وذلك يعنى أن هذه القوى لن تتوقف عن التدخل فى شئوننا طالما بقيت أوضاعنا على ما هى عليه أى طالما وجدت أرضية مهيأة لهذا التدخل من قبل أطراف محلية تستقوى بها، ولن تتوقف كذلك عن التدخل فى شئوننا لمجرد أننا نشجب هذا التدخل وندينه بأقصى العبارات، بل على العكس طالما نفتقد نحن إلى المناعة الداخلية، وطالما استمرت حلقة التردى والتدهور والانحطاط التى نعانى منها فإن تدخل هذه القوى سيزداد ويتعزز مفعوله فى واقعنا، ذلك أن أوراق الشجر لا تسقط لمجرد أن الريح يعصف بها، بل كذلك لأن هذه الأوراق ضعيفة الارتباط بالشجرة وهو ما يعرضها للسقوط حتى لو لم تهب الرياح. وليس ذلك دفاعا عن الغرب، فهو ليس بحاجة لمن يدافع عنه، ولكنه دفاع عن أنفسنا، أى لفت انتباهنا إلى مواطن ضعفنا والثغرات القائمة فى مجتمعاتنا وتركيز النقد البناء لها والتفكير فى كيفية تجاوزها وابتكار صيغ لإعادة بناء المناعة الوطنية والكفيلة بسد منافذ التدخل الأجنبى فى شئوننا، وفضلا عن ذلك إنهاء ذلك التواطؤ الجمعى الذى يهدف إلى إزاحة المسئولية عن كاهل المجتمعات العربية فرادى وجماعات واستمرار عيوبنا ومكامن ضعفنا على ما هى عليه. للقوى الغربية جرائم يندى لها الجبين فى الإبادة والرق والاستعمار فى العالم الجديد والقديم على حد سواء، وهى ملفات لا تزال مفتوحة ويتصحفها المؤرخون ويعيدون قراءتها وربما يستخلصون ويتوصلون إلى إدانات قوية واعتذارات قد تكون مصحوبة بتعويضات، ومع ذلك فإن هذا ليس مبررا للاستمرار فى نهج تبرئة تاريخنا من كل عيب وبالذات أو على الأقل تاريخنا مع الدولة الوطنية دولة ما بعد الاستقلال واستمرار تخلفنا وانقسامنا المذهبى والطائفى وتعثر تحقق المساواة والمواطنة والحداثة إن فى الثقافة والمجتمع أو على صعيد بناء دول حديثه حقيقية فى الجوهر وليس فى مجرد القشرة الخارجية. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد