البحث فى المستوى الاجتماعى للغة الرواية الفلسطينية يعنى عملياً البحث فى الأثر الشعبى الذى تتضمنه تلك الرواية. لأن هذا الجزء من السياق الروائى الذى يمكن أن نسميه «أدباً شعبياً» غنيٌّ بالمغزى والرموز التى تكشف عن تجارب الفرد الشعبى مع نفسه ومع الكون كله، ولأن السياق الشعبى المشار إليه يعبّر عن هموم الشعب كله، ومشاكله الاجتماعية والسياسية والماورائية. ولا تبدو اللغة فى الرواية الفلسطينية بعيدة عن المجتمع المحلّى إذ نلحظ عدة ظواهر شعبية تتجلى فيها. فالأغنية الشعبية تبدو جزءاً من نسيج الرواية، وكذا الأمثال والعادات والحكايات التى تعبّر عن وجدان الشعب وتطلعاته إلى العدل والاستقرار، كما نلحظ اللهجة العامية فى كثير من الحوارات التى تجرى بين الشخصيات، وفى الأساطير والخرافات الشائعة المعبّرة عن المنظومة الفكرية للمجتمع الفلسطيني، وسنكتفى هنا بالإشارة إلى الأغنية الشعبية الفلسطينية، وكيفية ظهورها فى نصوص روائية فلسطينية. والأغنية الشعبية هى تلك الأغانى الفطرية التى يرددها الأفراد والجماعات جيلاً بعد جيل، ولا أثر فيها لصفة متعمدة، ارتجلها فرد مجهول من أفراد الشعب بطريقة بدائية لا كلفة فيها ولا تكنيك، وترافق هذه الأغنيات صورة واضحة عن العادات والخرافات والمعتقدات التى تتحلى بها تلك الشعوب. ونشير هنا إلى إمكانية اشتراك الجماعة فى تأليف الأغانى الشعبية، لأن تلك الأغانى يمكن أن تخضع للحذف والإضافة والتحوير بما يلائم المناسبة التى تُغنّى فيها. ودارس الرواية الفلسطينية يلاحظ أنّ الأغنيةَ عامةً حاضرةٌ فيها، فثمة أغانٍ يقدّمها الراوى على لسان الشخصيات تعبيراً عن الحالات المختلفة التى يمرّ بها الناس، ويندرج أغلب هذه الأغانى فى ثلاثة عناوين رئيسية: هى الأغنية الاجتماعية والأغنية الوطنية وأغانى الأطفال. وتتعدد الأغانى فى الرواية الفلسطينية بتنوع المناسبات الاجتماعية والأحوال التى تعبر عنها. والأغنية الفيروزية تحديداً حاضرة فيها إلى حدّ كبير كونها تراثية، وتعبر عن أكثر اللحظات شفافيةً فى لقاءات الأحبّة. والإشارة هنا إلى روايتى «عارف آغا» «مخيّم فى الريح» و«أزهار الصّبار». ففى «مخيم فى الريح» يلتقى الحبيبان حامد وربيعة فى الحديقة: «شد على يدها وهبّ واقفاً، تأبّطت ذراعه، وسارا معاً، ومالت بجسدها قليلاً عليه، وراحت تدمدم : يا رايحين ع حلب حبّى معاكم راح يا محملين العنب فوق العنب تفاح كل مين حبيبو معو وانا حبيبى راح يا ربّ نسمة هوا يجى الحلو فيها وفى رواية «أزهار الصبّار» التقى الحبيبان، فارس وتهاني، «وغنّت له فأسكره صوتها الشجى المتدفّق حبّاً ورقّةً. ورافقها بصوته الأجش: بعدك على بالى يا قمر الحلوين يا زهرة تشرين يا حلو يا غالي بعدك على بالى يا حلو يا مغرور يا حبق و منتور على سطحى العالي» وإذا كانت هاتان الأغنيتان استخدمتا ضمن سياق اجتماعي ثنائي: رجل وامرأة، فثمّة أغان. أخرى تتناول المجتمع بتقاليده وعاداته الاجتماعية, كالأعراس التى يمكن أن تكون أماكن لبثّ الشكوى الفردية فى الإطار الاجتماعى الأوسع، كما نرى فى رواية «الشبح» ل «محمد زهرة»، إذ يغنّى عليّ فى عرس جميلة أغنيةً يعبر فيها عن الحبّ الذى يحمله المضطَهَد اجتماعياً تجاه فتيات لا يرين فيه الكفاءة المطلوبة، لذلك جاءت أغنيته صرخة حزنٍ كادت تودى بحياته: «لِف لى سيكارة حزن ما هى سيكارة كيف أم الجدايل شُقُر بحضن النذل يا حيف» ونلمس البعد الاجتماعى للأغنية الشعبية. ففى «وقائع طفولة فلسطينية» تصور الأغنية الشعبية العرس من الحمّام إلى الزفّة، وفى مستهلها تقول: «مبارك حمّامك يا عريس مبارك حمامك يا عريس» وتنبرى الأغنية الشعبية كذلك لمواساة أهل الميت، وتحقق فنيا وظيفتها فى الإيهام بالواقع، كما نرى فى رواية «قبل الرحيل» ل «يوسف جاد الحق»، إذ يتوفى الأستاذ شفيق موسى ويصدح أحد الرجال بموال حزين: «أوف..أوف..أوف يا حسرتى على مين راح ومضى وعلى اللى ودع احبابه ومضى أوف..أوف شفيق زين الشباب راح ومضى بس يا ريت ما يطول الغياب». وفى مجال الأغنية الوطنية نلاحظ أنها لا ترتبط بالمناسبات فحسب، فكثيراً ما تكون المناسبات الاجتماعية فرصةً لتقديم الأغانى الوطنية التى تجسّد الآراء السياسية والتحريض والتحدّى والاعتزاز الوطني.ففى «وقائع طفولة فلسطينية» يغنّى الناس خلال زفّة العريس بشكل جماعي: يا بلادنا يا بلادنا بالسيف نحمى بلادنا يُومٍ ينادينا الوطن نفدى الوطن بارواحنا وفى حالات الوفاة تندب النساء الميت، ويوجهن الأدعية إلى الله عزّ وجلّ للقضاء على الأعداء، ففى رواية«عباد الشمس» لسحر خليفة، تصوّر سحر الدموع والكآبة، والدعاء على الأعداء، وتندب النسوةُ بصوتٍ خفيض: ياريت البارود يغور فى ترابه عمنه صوارى ما حماش صحابُه ياريت البارود يغور فى السهله عمنه صوارى ما حماش أهله لا تضرب يا بو إيد مسودّه ريت رقبتك للشنق ممتده لا تضرب يا بو النجمة خيّاله ريت قلبك للشنق ميّاله» وتبدو أغنيات السجن جزءاً مهمّاً، وتصوّر المجتمع الفلسطينى فى مواجهة القمع الإسرائيلي، فأم أمين فى رواية «الأرض الحرام» ل «محمود شاهين»، تردد أغنية تقول: ياريت السجن ينهد على أصحابه لأنه على الغالى سكّر أبوابه يا ريت السجن ينهد على السجّان لأنه سكر بوابه على الخلاّن وحين خرج السجين يكون ذلك مدعاة لفرح يعمّ المجتمع الفلسطينى الصغير: الأسرة وأهل الحارة والأصدقاء، فحين يخرج محمود من السجن، فى رواية (العشاق) لرشاد أبو شاور يستمع لغناء بنات الحارة السعيدات بالإفراج عنه: «وأصغى محمود للنقر والغناء: ليلة أنيسة والقمر بيلالى شرفت الديرة يا محمود يا غالي واهتمت الرواية الفلسطينية بأغانى الأطفال، وهناك عدّة أغان تدعو للأطفال بأيام رغيدة مقبلة، أو تصف لعبة من ألعابهم، أو تحث على التحلى بخلق قويم، أو الإقبال على علم نافع، ففى رواية «الأرض الحرام» ل «محمود شاهين» تغنى الجدّات للأطفال، ويدعين لهم بالرعاية فى صغرهم، وعندما يكبرون: يا رب ترعاهم بعدهم صغار يا رب ترعاهم وتوخد بيمناهم لما يكبروا توخد بيمناهم تحكى لهم حكايات تبتدئ بجملٍ تدل على مدى واقعية محتواها الحكائى مثل «خرّفتك خريريفة» التى يمكن أن تغنّى للطفل قبل أن ينام، واشتهر «محمود شاهين» بتضمين هذا النوع من الأغانى فى رواياته، حتى إنه يمكن للمرء أن يعدّ رواياته مصدراً من مصادر الأغنية الشعبية الفلسطينية. ففى رواية «الأرض المغتصبة عودة العاشق» يستمع فداء إلى أغنية من هذا النوع تحمل فى طيّاتها عمقاً فلسفياً، مؤدّاه أن كل مخلوق هالك لا محالة: