في أحد محلات «برايمارك» في وسط لندن، كانت البائعة تتجول وسط المتسوقين مرددة «سلام عليكم..هل يمكنني المساعدة؟». لم تكن الوحيدة المحجبة، كما لم تكن الوحيدة التي تردد بعض عبارات الترحيب الإسلامية. ففي تلك السلسلة من المحلات التي تنتشر في بريطانيا، لا يمكن للعين أن تخطئ التواجد الكبير للمتسوقين المسلمين سواء السائحين أو المواطنين. ومثل الكثير من المحلات في شوارع لندن التجارية، باتت هناك سلع ومنتجات تتجه خصيصا للمسلمين. فإلى جانب البكيني، هناك البوركيني. وإلى جانب الشورتان هناك الجواكت الطويلة الواسعة والفساتين الفضفاضة التي تشبه العباءات. ليست فقط محلات الملابس هى ما يغير خطوط أزيائه كي تجد قبولا أكبر لدي المستهلكين المسلمين. فالمطاعم والمولات التجارية والسوبر ماركت على اختلاف أشكالها غيرت وطورت منتجاتها كي «تجذب الجنيه الإسلامي». فوفقا ل«مركز بيو للأبحاث» فإن عدد المسلمين في العالم سيتساوي تقريبا مع عدد المسيحيين بحلول عام 2050. ومع مؤشرات توضح أن قوة انفاق المسلمين في الشرق الأوسط وآسيا باتت أكبر من قوة إنفاق الكثير من الأوروبيين، يمكن فهم لماذا تريد الشركات الكبري حول العالم الإستفادة من ذلك السوق الهائل. فعلى المستوى العالمي، تقدر قيمة ما يستهلكه المسلمون حول العالم بأكثر من 2.1 تريليون دولار، إذا تبلغ قيمة ما ينفقه المسلمون سنويا على الملابس والأحذية ب266 مليار دولار، ويتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 484 مليار دولار بحلول 2019. أما قيمة ما ينفقونه المسلمون في سوق السياحة فيقدر بنحو ب126 مليار دولار، وقيمة ما ينفقونه على سوق مستحضرات التجميل ب13 مليار دولار. وهذه النسب في تزايد مضطرد. أما في بريطانيا فيشكل المسلمون 5% من السكان وقدرتهم الشرائية فتقدر ب 20 مليار جنيه استرليني سنويا وهي أيضا في تزايد مضطرد. فنسبة الشباب وسط المسلمين في بريطانيا هى الأعلى بين كل التكوينات العرقية والدينية، ونسبة نمو السكان المسلمين وسط البريطانيين هي الأعلى. ومن المتوقع بحلول 2050 أن يشكلوا 10% من السكان. وهناك أهتمام متزايد بعاداتهم الشرائية، خاصة الشباب بين 16 إلى 30 عاما، فهم الشريحة العمرية الأكثر استهلاكا للتكنولوجيا وأدوات التجميل والملابس والأكثر ترددا على المطاعم والمقاهي. وفي عالم اليوم بات من السهل معرفة ماذا يريدون وكيف يفكرون عبر جمع المعلومات حول عاداتهم الشرائية من خلال وسائل التواصل الإجتماعي التي باتت الوسيلة المثالية للشركات الكبري لجمع المعلومات وتحليلها حول المستهلكين بشرائحهم المختلفة وقدرتهم الشرائية. وفي استطلاع للرأي حول توجهات المسلمين الإستهلاكية، قال 90% من العينة التي تم استطلاع رأيها إن «ديانتهم تحدد الطريقة التي يستهلكون بها». وتقول رينا لويس أستاذ الدراسات الثقافية في كلية لندن للأزياء إن نسبة الشباب وسط المسلمين من بين الأعلى في العالم «وهذا بحد ذاته يجعل المسلمين شريحة استهلاكية مهمة جدا في أي شيء»، ناهيك عن قدرتهم الشرائية وارتفاع مستويات الدخول في العديد من البلاد الإسلامية من الخليج إلى ماليزيا. فمنذ 30 عاما تقريبا لم يكن أحد يعرف حتي بفكرة وجود مسلمين في الغرب أو قادمين للسياحة لهم متطلبات واحتياجات خاصة مثل الأكل الحلال والملابس الشرعية. كما كانت هناك صور نمطية عن المسلمين تحدد السلع والمنتجات الموجهة للمسلمين، ما يقلل ويقلص الاختيارات أمامهم. فقبل عقدين مثلا كانت كلمة المسلمين تعني استهلاك سجادات الصلاة والدجاج الحلال المتبل بالكاري. اليوم باتت السلع والخدمات التي تقدم للمسلمين تبدأ من مطاعم عالمية باتت تدرج اللحم الحلال على قائمة طعامها، وصولا إلى خطوط أزياء خاصة للمسلمات من «اوسكار دي لارنتو» وصولا إلى «دولشي أند جابانا». فخطوط الملابس التي تلائم جماعة دينية أو عرقية ما، لم يعد تقديمها يقتصر على محلات الشوارع التجارية مثل «برايمارك» أو «ماركس أند سبنسر» الذي قدم البوركيني للعالم العام الماضي. فكبريات بيوت الأزياء باتت مهتمة أيضا بتقديم خطوط أزياء تلائم المسلمين كي تنال شريحة من ذلك السوق المربح جدا. ففي عام 2004 صمم بيت أزياء «دكني» خط ملابس لشهر رمضان. وبعد ذلك قامت بيوت «مانجو» و«مانسون» و«أوسكار دي لارنتو» و«تومي هيلفيجر» و«زارا» بتصميم خط ملابس للنساء في الشرق الاوسط خلال شهر رمضان. كما دشن بيت ازياء «يونيكلو» الياباني خط كامل باسم «ملابس محتشمة» بالتعاون مع مصممة بريطانية مسلمة هي هانا تاجيما التي ترفض اضافة كلمات مثل «رمضان» أو «اسلامية» للمجموعة. وتوضح رينا لويس أن السبب وراء ذلك أن «الملابس المحتشمة ليست حكرا على المسلمين. وأنها يمكن أن تأتي في أطار ميل عالمي أكبر للملابس المحتشمة بغض النظر عن الدين». فيما دشن بيت الأزياء الإيطالي«دلشي اند جابانا» خط ملابس تحت عنوان «عباية» للنساء المسلمات في اوروبا والشرق اوسطيات. ومؤخرا إستعانت شركات عالمية مثل «أبل» و»اندرويد» و»جيب» و»كوكاكولا» بفتيات محجبات في اعلاناتهم. وفي سابقة تعد الأولى من نوعها، أستخدمت شركة «اتش أند أم» للملابس عارضة محجبة هى ماريا ادريسي، في أحد حملاتها الإعلانية وذلك للمرة الأولى لشركة ملابس كبيرة. هذا التودد لما يمكن تسميته «المال الاسلامي» أو «الاستهلاك الاسلامي» أو «الجنيه الاسلامي» له مؤيديوه الكثيرون على أساس أنه «يفتح وينوع الأختيارات أمام المستهلكين». لكن هذا التودد له أيضا معارضوه ومنتقدوه. فعندما قدم «ماركس اند سبنسر» «البوركيني» تعرض لموجة انتقادات من جمعيات نسوية وحقوقية أعربت عن قلقها من أنه قد يصبح البوركيني «الأمر الطبيعي» ما يقلص حريات النساء المسلمات اللواتي يردن أن يرتدين البكيني. وفي المقابل رد «ماركس أند سبسنر» بالقول إنهم يقدمون اختيارات واسعة وليس لديهم اجندة سياسية او دينية ولا يروجون لنوع معين من الملابس أو أسلوب الحياة. وكما يغير الاستهلاك الإسلامي سوق الأزياء في العالم، فإنه يغير أيضا المطاعم والسوبر ماركت. ففي منطقة «سوهو» وسط لندن والتي يطلق عليها «الصين الصغرى»، تننتشر عبارة «حلال» على المطاعم الصينية. ومؤخرا تزايدت بشكل لافت المطاعم التي تقدم إلى جانب قائمة طعامها «أطباق حلال» مثل سلسلة مطاعم «ناندوز». كما انتشرت الشركات التي تعرف مسلمى بريطانيا او السائحين بافضل المطاعم الحلال ومن ضمن هؤلاء «نادي الأكل الحلال» الذي أسسته البريطانية صديقة جعفر التي تقول إن المطاعم التي باتت تقدم «طعام حلال» لا تقتصر بالضرورة على المطاعم التي يديرها أو يمتلكها مسلمون. وحتي ماركات الحلوي الشهيرة مثل «هاريبو» باتت تضع علامة «حلال» على عبواتها من حلوى الأطفال. وفي شهر رمضان بات من العادي جدا أن تخصص كبريات محلات السوبر ماركت في بريطانيا ومن بينها «اسدا» و«تيسكو» و«ماركس أند سبنسر» و«ويتروز» جانب كامل من رفوفها للمسلمين عليه عبارة «رمضان كريم» يتضمن التمر وقمر الدين والعصائر والمكسرات والألبان واللحم الحلال. ومؤخرا أسست سيدة أعمال مسلمة وهى شذية سليم مصنع لمنتجات اللحم الحلال لإنتاج لفائف السجق» و«فطيرة شيبرد» التقليدية البريطانية الشهيرة. فمسلمو بريطانيا الذين يشكلون 5% من السكان، يستهلكون 12% من اللحوم. وبنفس الفلسفة يقام سنويا في شرق لندن «مهرجان الأكل الحلال» مع زيادة قيمة «إقتصاد الأكل الحلال» في بريطانيا إلى أكثر من 800 مليون جنيه استرليني. وكما تغيرت الشوارع التجارية والسوبر ماركت وقبل ذلك صناعة المال عبر «البنوك الاسلامية»، تتغير حاليا صناعة الطيران. فشركة طيران الإمارات تستهلك يوميا 125 ألف وجبة طعام حلال على رحلاتها. وفيما الربح هو الدافع الرئيسي وراء محاولات «إغراء» المسلمين سواء السائحين أو مسلمي بريطانيا الاستهلاك من ماركات عالمية جديدة لم تكن تقدم لهم في الماضي سلع أو منتجات تناسب احتياجاتهم الدينية والثقافية، فإن توجه الكثير من المسلمين لإستهلاك المزيد من السلع من كبريات بيوت الأزياء والمطاعم مرتبط بهويتهم الإسلامية الأوروبية، حيث لا تعارض بين الأناقة والحجاب والحداثة. ولا تعارض بين الاسلام كدين وثقافة وبين استهلاك أحدث وأفخم الملابس وماركات المكياج. ولا شك أن عدد من المدونات البريطانيات المسلمات الشابات لعبن دورا في تغيير الكثير من العادات الاستهلاكية للمسلمات. وفي معرض «نمط حياة المسلمين» الذي أسسه وليد جاهانهير وأقيم هذا العام في معرض اولمبيا في منطقة «هامرسميث» غرب لندن ولاقي اقبالا هائلا يمكن فهم كيف بات المسلمون البريطانيون يرون أنفسهم. فالدين بالنسبة لهم ليس عائقا أمام الأستهلاك أو أحدث خطوط الموضة. لكن هذا الإنفتاح إزاء المسلمين واحتياجاتهم يحركه السوق واحتياجه لصناعة الربح، بدون أن يعني هذا الأنفتاح السوقي تفهما أكبر أو تسامحا أو احتراما بالضرورة. وأزمة البوركيني أوضح دليل على هذا، ففيما تسعي بيوت الأزياء الكبرى والسوبر ماركت وشركات التكنولوجيا لجذب المزيد من المسلمين لإستهلاك ملابس أو أطعمة أو منتجات تكنولوجية، ما زالت شرائح كبيرة في الغرب تعتبر الاسلام خطرا، وتري التعبير عن الهوية الدينية، سواء عبر ملبس أو سلوك، تهديدا للديمقراطية والليبرالية والعلمانية. وأمام هذا التناقض الفادح يجد المسلم الأوروبي أو الزائر نفسه أمام معضلة، فمن ناحية يشجعه السوق على استهلاك كل ما يمكن أن يتماشي ويعزز ويظهر هويته الدينية، لكن من ناحية أخرى عندما تتجلي تلك الهوية وتشكل تمايزا عن النسيج الاجتماعي والثقافي والديني السائد، فإنه قد يصبح ضحية لها.