«نسوة على» هو عنوان رواية سمير الشحات عنوان مراوغ أو مخادع ومعبر معا على الرواية. مخادع لأنه لا يتناول حياة النسوة، أو علاقة «على» بهن فقط، ولكنه يقدم تصويرا دقيقا لحياة كفر الفلايحة عامة، بكل ما فيها من رجال ونساء وأطفال وبهائم وكلاب، وحتى أيضا الحشرات من ذباب وبعوض وبق وبراغيث وصراصير وبرص وغيرها. ........................................................... أما من حيث كونه معبرا، فذلك يعود إلى أن للنساء دورا رئيسيا فى الرواية، وفى علاقات «على» بهن، وهو يرصد أنواعا مختلفة من هذه العلاقات، بين حب «مريم» الرومانسى العذرى، وحب «بشرى» الجنسى التى علمته كيف يصبح رجلا، وحب «سناء» الجسدى، وحب «هدى» الفكرى العقلى، وأخيرا حب «هنية» الأقرب إلى التعاطف، أيضا للنساء فى الرواية دور أكبر من مجرد علاقاتهن بعلى، فيقدم كثيرا من النماذج والعلاقات المتشابكة التى تخطو خطواتها الأولى المتعثرة فى المتعة بين الصبيان والبنات، الذين يكتشفون رجولاتهم النابتة وأنوثاتهن المبكرة، ولا تعدم الرواية حكايات أخرى لعلاقات بين الكبار. فيكاد المؤلف يأخذك بحكاياته التى لا تنتهى، ويغلفها بغطاء من حكايات عن الشهوة أو الجنس، بين أبطال العمل؛ سواء أولئك الذين يمرون بمرحلة التحول الى الرجولة والأنوثة أو أولئك المخضرمون المتمرسون، وأعتقد أنه اتخذ من الحب والجنس غطاء ليصف لك حكاية مجموعة من المهمشين فى حارة ضيقة فى قرية صغيرة تجدها على امتداد الريف المصرى فى دلتاه أو صعيده. وكان أميز ما فيها، ليس مجرد الخيال الذى يعيشه البطل فقط، بل الخيال الذى جمع بين حكايات الإنس والجن، فالعفاريت والجان كان وجودهم مواز يا لوجود الإنس فى الحكايات. ويقدم المؤلف رواية غير تقليدية، فلا نجد تصاعدا فى الأحداث، ثم تعقيدا لها، لتنتهى الرواية بحل هذه العقدة، بل يقدم شريطا متوازيا من حياة على عبد الكريم سيد الفلايحى فى القرية، يبدأ بمقدمة لوصف هذه القرية التى لا هى بالمدينة ولا هى بالقرية، ولكنها «بين بين» من حيث بيوتها ورجالها ونسائها وشوارعها ومسجدها، وحاراتها ومبانيها، ثم بمقدمة ثانية عن المقام الرفيع الذى وصل اليه «على» كرئيس لمجس الادارة، وأثناء الاجتماع الأول له بكبار موظفى الشركة يأتيه خبر وفاة أمه، فيذهب الى القرية التى كان قد هجرها منذ سنوات، ليبدأ استعادة ذكرياته، مستخدما الفلاش باك لطفولته، ولا تنتهى الرواية إلا بعد مراسم العزاء وعودته للقاهرة مرة أخرى، ولكنه يذهب للقرية شخص ويعود منها شخصا آخر. الواقعية وعلى مدار الرواية تمزج أحداثها بين الواقعية الشديدة، التى تجد فيها رائحة الأديب الكبير الراحل خيرى شلبى الواقعية، فهو يغرقك فى وصف التفاصيل الدقيقة وصفا مسهبا، للأشخاص والمبانى والشوارع والأشياء، ويقدم تصويرا نفسيا لأبطال الأحداث والكومبارس، فلا تفوته صغائر الأشياء أو الأحداث، لا عظيمها ولا حقيرها. وتجد هذه الواقعية فى أحداث الحارة، وغيرة النساء وشجارهن، وفى الوصف التفصيلى لسوق القرية، وللعب الأولاد للكرة الشراب، واستحمامهم فى الترع، وللتلاميذ فى مدرسة الناصرية الإعدادية المشتركة والمدرسين، والوصف المسهب ليوم العيد فى القرية. وفى الجزء الثالث من الرواية المسمى «بيت الأسطى»، ويقصد بها «المعلمة» التى تدير بيتها للمتعة الحرام، تختلط أيضا اللوحات الخيالية بالواقعية. ألف ليلة وليلة يتضح الخيال فى الرواية، ليس فقط فى حكايات الجن والعفاريت الحاضرة بكثرة، ففى «بيت العجوانى» تسكن مريم التى تحبه دون أولاد الحارة، تلك الفتاة العاجزة أو المشلولة- وكان هو يحبها أكثر مما تحبه- والتى أنقذته وأنقذت أسرته أكثر من مرة. وفى هذا الفصل تكثر حكايات الجن، فشيخ العفاريت يعشق مريم، وتحت بيت العجوانى مستعمرة للجن، والحديقة العتيقة للمحكمة الشرعية تسكنها العفاريت، وهكذا يقاسم الجن الإنس بطولة العمل. وتجد رائحة «ألف ليلة وليلة» وسحرها وفى الرحلات الخيالية لعلى مع عبد الستار، إلى وادى الأفاعى، الذى تحتوى على أفاع هائلة الحجم، وأخرى لاتزيد على كف اليد، والنزال الدامى بين أسراب الجراد والنسور الجارحة، وأسراب البوم فى الكهوف المظلمة، ثم ينتقل بك الى الجنة من حيث المأكولات الشهية والحوريات الحسان. وفى حكايات شرقاوى مصاص الدماء، الذى قتل ثلاث فتيات ويمصّ دماءهن، ومعركة عبد الستار الحامية معه، وكيف كان عبد الستار يتحوّل الى غبار مرة، ويتشكل فى صورة أسد مرة أخرى، واستطاع بمعاونة أهل القرية أن ينتصر عليه، فتحول الشرقاوى إلى كومة من تراب.. وكذلك رحلة «علىّ» داخل بيت الشناوى المهجور لاستعادة الكرة الشراب، والذى ذبح فيه الشناوى زوجته الخائنة وبناته منها، ورحلته الخيالية مع الشناوى وزوجته وبناته. وفى بيت العطارين، حكايات من ألف ليلة، من حيث الوصف والإسهاب فى الحفلات الغنائية والسمر وأصناف الطعام والمغنيات وحلقات الذكر وغيرها. وفى رحلته مع شيطان مريم فى سرايا العطار، حيث يقطع العبيد السود أجزاء مختلفة من أجساد رجال معصوبي الأعين لعمل مساحيق منها، بعضها يطيل العمر، وبعضها يعالج العلل النادرة، وبعضها يعدل المزاج العكر، وبعضها يزيل الهمّ، وبعضها يطيل الشهوة، وبعضها يجلب النساء إلى الرجال كالذباب. وأيضا فى حفلة «مزاد اللحم» يُعرّى الكثيرين من مظاهرهم الخارجية، ليظهرهم على حقيقتهم فى لوحة خيالية لمزاد لشراء البنات، وفى بيت المعلمة، ومن خلال حكايات فتيات المتعة وزبائنهن، لا يختفى سحر ألف ليلة. الجحيم لدانتى وإذا كان المؤلف قد تأثر بسحر ألف ليلة وحكايات الجن والعفاريت، فقد تأثر أيضا بالعمل الشهير لدانتى «الجحيم». ففى الرواية فصل يسمى «درب الآلام» يكاد يكون درب الجحيم، وفيه يصحب الحاج العطار «عليّا» الى درب لم يلجه أحد من قبله، لنجد نماذج من العذاب الذى تناله العاشقات حراما، أو كما يسميهن: خائنات لكن عاشقات. والرجال صرعى الطموح، ونساء ضحايا فراق الأحباب، وفى «المذبح» نرى أنواعا أخرى من العذاب لرجال سرقوا آمال الآخرين ونسبوها إلى أنفسهم أو هم لصوص الأحلام، ولصوص الأعراض.. بالإضافة الى وصفه «ساحة مطلع الأرواح» التى تتجمع فيها الأرواح بعد مغادرتها للجسد، وعذاب وضحايا «ألم الوحدة». وفى فصل آخر بعنوان «وادى الجنيات»، تصحب مريم عليّا إلى رحلة لوادى الجنيّات فى المحيط، ورغم ما فيه من سحر وخيال «ألف ليلة وليلة» ففيه أيضا «جحيم دانتى»، حيث نشاهد أنواعا أخرى من التعذيب؛ منها تعذيب مَن «خانت الحبيب»، و»المنجبات بنات من الحرام»، و»مَن أغوت طفلا قبل أن يبلغ الحُلُم»، و»التغرير ببنات الناس».. وأرى أن فى هذا الفصل تكرارا لفصل «درب الآلام» وكان من الأفضل أن يكونا فصلا واحدا. وقد رسم لنا المؤلف نماذج مختلفة بريشة فنان ماهر، أو نحت لنا صورا عميقة مجسدة، كنحات متمكن يستخدم الإزميل فى الجرانيت فى سهولة ويسر، وخصوصا لشخصيات «أم سيد» الشلق، و»ديستيفانو الرهيب»، و»أم شفيق»، و»الشيخ عبد المولى» إمام المسجد الكبير، و»الحاج مصطفى»، و»عم «إسماعيل» جناينى سرايا العطار، و»المعلمة ام حمادة»، بالإضافة الى شخصيات النساء بالطبع: «مريم» و»بشرى» و»سناء» و»هدى» و»هنية» و»إيفون» وغيرها من شخصيات الرواية. بين الفصحى والعامية وسمير الشحات أديب متمكن من أدواته تماما، فلغته الأدبية جزلة، سهلة، بليغة فى ذات الوقت، يمزج فيها بين الفصحى والعامية، وبخاصة خلال الحوار أو فى استخدام تلك الكلمات العامية التى من الصعب التعبير عنها بالفصحى، أو ربما هى كمصطلح لا تقل بلاغة عن الفصحى. وربما نأخذ على لغته، أنه كان أحيانا يستخدم حوارا على درجة عالية من الثقافة والفكر لايتناسب مع شخصية قائلها البسيطة، فمثلا أجرى على لسان مريم، الفتاة المريضة، غير المتعلمة، حوارا مع البطل (على) تحثه على القراءة، وإرتياد المكتبة التى ستغير من حياته، وأيضا عندما طلبت «هدى» من «على» أن يصف لها حبيبته «مريم»، فكان الحديث أعلى وأكبر من أن يتناسب مع شخصية وسن وفكر المتحدث. ......................................... ربما يفاجأ قارئ رواية «نسوة على» لسمير الشحات بأنها روايته المطبوعة الأولى، فيشعر بالحسرة على ذلك الأديب الذى ضل طريقه للصحافة فأضاعت منه ومنا الكثير، وإذا كان المؤلف يهدى روايته إلى أبيه، الذى لم يكتشف عبقرية روحه إلا متأخرا، متأخرا جدا، بعد رحيله، فنرجو أن يكون المؤلف قد اكتشف موهبته، حتى لو كان متأخرا، ليقدم لنا نهرا من الروايات لا ينضب.