فى رحلتنا صوب الوطن الذى طال انتظاره، فرض أن نسير فى طريق شديد الوعورة، ومُقَدَّرٌ أن نتحلى بالتنبه حتى لا نخرج عن صحيح المَسِيرْ، وحتْمِيٌ أن يغدو الصبر جميلا. عبر هكذا تصور لطبيعة المَسِيرْ تنجلى الرؤية للمَقْصِدْ، وتتحقق الرؤى التى آمن بها المخلصون فى وطن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وتنتقل هذه الدعائم المنشودة من خانة الثورية إلى أصل الوطنية، فيتحلق حولها الجميع لا فرق بين معتقِدٍ وثانٍ، أو جنس وآخر، أو يمين ويسار، أو رسمى وأهلي، أو مدنيٍّ وعسكريِّ، فالكل صوب الوطن المأمول يسير. وحيث إن مصر بدأت عامها السادس من عمر رحلتها نحو الوطن القادم، وعامها الرابع من تاريخ ثورتها الثانية، وعامها الثالث من عهد حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، فإن وقفةً على درب المَسير تجاوزت حيز الوجوب إلى الفرض، ليقف السائرون جميعاً قادة لكل مستوي، وجُنداً فى كل صعيد، طارحين على الضمير الوطنى سؤال (هل تمضى قوافل الوطن غير منشغلة عن المَسير بالعصافير التى فى كل حَدَبٍ تطير؟). الواقع المتحلى بالتخلى عن أية حسابات إلا وجه الله ومن بعده الوطن، يؤكد أن غاية المسير التى حملت الهم الوطنى فى 30 يونيو 2013م ووحدت الجميع (شعبا ومؤسسات) باتت غايات، وأن الكتلة الصلبة استحالت شتات، وأن جل نوافذ التبصرة ذالإعلام- صارت مسامير تُعمل فى بدن الوعى الوطنى لإحداث الثغرات تلو الثغرات. وأن لغة القابعين على الكراسى أضحت فى قاموس الوجع الشعبى لوغاريتمات، وأن آلة الفرز صارت الأمضى فعلاً فى مواجهة آلات البناء، وأن أدوات الشك غلبت على لغة اليقين، حتى صار لكل مجال عصافيره التى يطلقها ليشغل أهله عن عوار إدارته وسوءات خلفتها سنون عجاف، وليبرر واقع (شِبْه الدولة) التى آمن الجميع بقرب وقوعها فانتفضوا لترميمها مرتين خلال عامين. وهنا يطرح واقعنا تساؤلاً ثانيا (لماذا تكاثرت فى واقع المسير المصرى العصافير التى تطير؟)، ولكى نكون منصفين يجب علينا أن نعود بالذاكرة إلى يوم الثالث من يوليو 2013م، وتحديداً مع بيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة والذى حدد خريطة الطريق نحو الجمهورية الثانية، كان البيان واضح المعالم والخطوات والأدوات، وحين بدأ المسير صوب تنفيذه انطلقت فى أفق الوطن آلاف العصافير المشتتة والمفتتة عبر ماكينات عدة، بدءا من ماكينات التنظيم الإخوانى وحلفائه ولئن كانت هى الأكثر وضوحاً وسفوراً فى إطلاق عصافيرها، لكن الأخطر كان فى ماكينات الإطلاق الداخلية التى تنوعت وتعددت. وربما الأخطر تمثل فى ماكينات اللاعب القديم مع التنظيم الإخواني، وأعنى به (رجال عصر مبارك)، الذين توهموا أن عجلة التاريخ ستعود للوراء بمجرد إسقاط حكم التنظيم الإخواني، عصافير النظام المخلوع انطلقت بقوة، معلنين أن الساحة عادت إلى اللاعبين الرئيسيين السابقين حيث نظام يحكم وتنظيم إرهابى ذمحظور فى عصرهم- بالشارع يتحكم، هذه العصافير اثقلت بتتابعها فى أفق الجمهورية الجديدة كاهل إدارتها وحملتها فواتير فساد وإفساد ما زال ينخر فى بدن (شِبه الدولة). ثم كانت ماكينات رأس المال الإعلامي، الذى يتبع بطرق واضحة أو ملتوية رجالات البيزنيس الذين نمت ثرواتهم فى ظل النظام الذى انخلع، ولم تتأثر مع النظام الذى انعزل، ووجدت فى واقع المسير نحو الجمهورية الجديدة فرصة لتنمية امبراطوريات مالية قامت على أطلال دولة باتت بوجودهم (شبه دولة)، ولذا كان الحتمى هو تصدير خطاب إعلام العصافير الذى إن روَّح سَطَّحْ، وإن تعاطف نَفَّرْ، وإن انتقد أَسَّفْ، وإن دَعَمَ ورَّطْ. وبعدها تأتى ماكينات الفعل السياسى (الأحزاب)، حيث قديمها على قديمه، تماماً كما تقول العامية المصرية، أحزاب تعتبر نفسها جزءا مكملا من واقع حكم لا تؤثر فيه، ومنتهى أمانيها أن يكون لها وجود داخل كتلة برلمانية فاعلة تأييداً أو معارضة، وغاية خطط عضويتها أن ينضم إلى قوائمها وجيه مالى أو عائلي، أما جديدها فخرج من ذات الرحم القديم دونما تطور حقيقى فى مشاريع الطرح والعقيدة السياسية أو انحياز لأطر البناء الهيكلى الفاعل والمتداخل مع شرائح الخلق فى بلادنا. ثم تأتى ماكينات النخب المصرية بكافة أشكالها، والتى لم تنجح فى أى فعل تحصينى يحول دون امتلاء أفق الوطن بعصافير التشتيت والتفتيت والتفريق واليأس والإحباط، عبر فتاوى دينية تارة وأخرى تحررية وتجديدية وتجريدية وحداثية، ولا يهم التوصيف المهم أن ينتهى بحرفى الياء والهاء وبينهما مَلْوُ!، فضلاً عن كونها فشلت فى صناعة أى توحد حول راية. لكن تبقى المسئولية الأكبر فى عنق المكلف بالإدارة والموفَوض بالمواجهة فى ساح البناء، والذى تصدر فى زمن الاستهداف، وعليه تقع مسئولية الإدارة كما يتحتم التزود بكل جدارة، عبر جبهة وطنية مصغرة تضع استراتيجية البناء، وتحدد آليات كل مرحلة فيه، وتُطوِر دروع الحماية، وتفرض شروط الاختيار لكل من يتصدر، وتؤاخذ كل راعٍ لعصافير التشتيت أو مطلق لها. يا سادة إن العصافير تتكاثرت حتى لبدت أفقنا وبتنا كمواطنين فى حالة طيران خلف أسرابها نحو غياهب وطن لم نحلم به يوماً. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى