نعرض فى حكايات اليوم إحدى روائع سيدة الغناء العربى أم كلثوم «فات الميعاد .. وبقينا بعاد .. والنار بقت دخان ورماد» تلحين الموسيقار الملهم بليغ حمدى تأليف الشاعر الكبير مرسى جميل عزيز صاحب الكلمة الحلوة والفكرة الجديدة والأسلوب الراقى الشيق البديع، يقول الكاتب الكبير أنيس منصور: حينما أخلد إلى نومى فى المساء أضع بجوار مخدعى ترانسستور صغير واستمع إلى أغانى عبد الحليم ونجاة وفايزة أحمد وشادية ووردة وغيرهم، كما أحرص على استماعى إلى أغانيه أثناء توجهى إلى مكتبى من الجيزة إلى مؤسسة الأهرام فى العاشرة صباحاًً أدير قرص الراديو لأستمع إلى شبكة الشرق الأوسط ومحطة الأغانى أو البرنامج العام وغيرها وتشد انتباهى أغنية بمعناها الجميل وأسلوبها الراقى أنتظر حتى أستمع للنهاية وأعرف من المذيع أو المذيعة أنها من كلمات مرسى جميل عزيز، ما هذا الجمال وهذه الروعة لقد وهبه الله هذا الكلام الحلو لكى يسعد ملايين المستمعين فى مصر والدول العربية ) وكان أنيس منصور يعرف العلاقة الطيبة التى تربطنى بمرسى جميل وتأثرت بكلماته وكنت إلى جواره فى مرضه الأخير بالمستشفى حتى فارق الحياة، وفى كل عام تحتفل الإذاعة بذكراه كشاعر مبدع وتسألنى إحدى المذيعات ما تقول عن شاعر الألف أغنية فأقول لها صاحب الألف أغنية ناجحة فليس هناك أغنية واحدة من تأليفه إلا واكتملت معانيها وأركانها وأصبح مدرسة لكل شاعر من الجيل الجديد ليتعلم منه الكلمة الحلوة ويصبح شاعراً متميزًً وكانت تربطه علاقة طيبة ببليغ حمدى الذى اكتشفته أم كلثوم فى أغنية «حب إيه» كلمات عبد الوهاب محمد وقد ذهب بليغ لمرسى فى بيته وتبين له انه انتهى من كتابة أغنيتين بلغ فيهما قمة إبداعه الشعرى سيكونا موضع اعتزاز أم كلثوم وهما «سيرة الحب» و»فات الميعاد» (وقد تغنت بهما تباعاًَ) وكان بليغ يميل أكثر إلى «فات المعاد» فأهداه مرسى كلماتها بالكامل ليدخل صومعته فى شقته الملاصقة لفندق سان جيوفانى على شاطئ الاسكندرية وأمضى هناك ثلاثة أسابيع فى تلحين الأغنية وكانت شقيقته المرحومة صفية حمدى هى الوحيدة التى تعرف هذا الإعتكاف وكان يحمل معه بعض الأوراق ويجيد كتابة النوتة الموسيقية وكان على إتصال دائم بسيدة الغناء التى تعرف انشغاله بكلمات فات الميعاد وما إن فرغ منها اتصل بقائد فرقة أم كلثوم عازف القانون الأول محمد عبده صالح وبالفعل كتب النوتة الموسيقية بعدد أعضاء الفرقة وانبهرت أم كلثوم بروعة كلمات مرسى جميل خاصة فى المقطع الذى اندمجت فيه مع اللحن «تفيد بإيه يا ندم .. تعمل إيه يا عتاب.. طالت ليالى الألم .. واتفرقوا الأحباب.. وكفاية بقى تعذيب وشقى .. ودموع فى فراق ودموع فى لقا « وتتكرر اللقاءات بين أم كلثوم وبليغ حمدى حيث كانت تطلب منه أثناء البروفات أن يحضر إلى فيلتها بنيل الزمالك ويغنى بعض المقاطع التى ترغب فى أن تغنيها معه وكثيراً ما كانت تعجب بصوته لتمتد السهرة حتى آخر الليل وتكون قد استوعبت هذه المقاطع بالكامل وتأتى فى اليوم التالى لتغنيها مع الفرقة بالاستوديو وهى عادة كثيراً ما تتبعها أم كلثوم من أجل إتقان اللحن بما يفيد الأغنية بوجه عام. أما المفاجأة التى أذهلت أم كلثوم فكانت فى مقدمة اللحن قبل الدخول فى الغناء حيث استعان بليغ بعازف الساكسفون الفنان سمير سرور الذى ظهر لأول مرة خلف أم كلثوم وأبهر الحاضرين بأدائه لهذه الآلة الجديدة فى ذلك الوقت «ياما كنت أتمنى أقابلك بابتسامة» واشتركت فيها آلات ساكسفون والجيتار والكمان والقانون والأوكرديون هذه الآلات مجتمعة التى ابتكرها بليغ فى المقدمة أضفت للحن مذاقا ً خاصا ً ويتحدد موعد الحفل بعد أن تكون الصحف قد نشرت النص الكامل للأغنية وتستعد أم كلثوم للغناء أمام الجمهور الذى زاد اشتياقه لكلمات مرسى جميل عزيز ولحن الملهم بليغ حمدى غنت أم كلثوم وبلغت قمة أدائها فى المقطع الذى أبدعه مرسى جميل «ستاير النسيان.. نزلت بقى لها زمان.. وإن كان على الحب القديم وأساه.. أنا نسيته أنا يا ريت كمان تنساه» ويطلب الجمهور إعادة هذا المقطع أكثر من مرة وتستجيب أم كلثوم وتعيد بالفعل هذا المقطع بينما بليغ يجلس وراء الكواليس يتأمل الآداء الرائع لسيدة الغناء والتصفيق المدوى للحن الذى بلغ فيه بليغ قمة إبداعه الموسيقى ويصل اللحن إلى نهايته فى المقطع الرائع الذى تجلت فيه أم كلثوم مع لحن بليغ وكلمات مرسى جميل ورددته أكثر من مرة بناء على طلب الجمهور « الليل ودقت الساعات تصحى الليل.. الليل وحرقة الآهات فى عز الليل.. من نارى.. وطول لياليا.. وفرحة العزال فيا.. إلى أن تصل إلى قمة أدائها فى المقطع الذى يقول «بينى وبينك هجر وغدر وجرح فى قلب داريته .. بينى وبينك ليل وفراق وطريق أنت اللى بديته.. تفيد بإيه يا ندم وتعمل إيه يا عتاب ..طالت ليالى الألم واتفرقوا الأحباب.. «ولا تزال المقدمة الموسيقية التى أبدعها بليغ فى هذا اللحن وكلمات مرسى جميل عزيز التى تفوق فيها المؤلف على نفسه مثلا ً يتردد على ألسنة الناس بعد إذاعتها حتى الآن وهنا تتجلى عظمة المؤلف عندما قال فى بعض شطرات الأغنية « عايزنا نرجع زى زمان.. قول للزمان إرجع يا زمان.. وهات لى قلب لا داب ولا حب ولا انجرح ولا شاف حرمان» بل أن هذه الشطرة التى أبدعها مرسى جميل صارت حكمة مما يدل على عظمة الشاعر وقدرته على ابتكار المعانى الجميلة التى تعيش فى وجدان الجماهير عشرات السنين وهو ما كان يؤكد عليه أنيس منصور بصفة دائمة ، وينتهى الحفل فى الواحدة بعد منتصف الليل ويسدل الستار وسط التصفيق المدوى للمستمعين وتكون رائعة فات الميعاد قد تم طبعها على ألاف الأسطوانات وتوزع فى كافة الأقطار العربية ليقتنيها عشاق سيدة الغناء فى اليوم التالى لإذاعتها على الهواء فى القاهرة وهذا ما كان يحدث فى كل أغانى أم كلثوم .. والسؤال الآن لمصر صاحبة الريادة فى الثقافة والفنون، متى وكيف تعود لسابق عهدها فى إثراء كل الشعوب العربية بفنها الراقى الأصيل الذى يرتقى بالإنسان ويصنع ازدهار وتقدم الأوطان وهو الحلم الذى سيظل يراود كل الذين عاصروا هذه النهضة الغنائية التى صنعها جيل الرواد فى زمن الفن الجميل.