ماذا فعل عام 1956 بالصراع الثقافي في الحرب الباردة؟ وفي صياغة أخري: ما الذي انفجر في ذلك العام حتي يقال عنه إنه كان موضع صراع؟ اذا أردت البحث عن هذا السؤال أو ذاك فابحث عنه لدي النخبة. واذا كان ذلك كذلك فالسؤال هو علي النحو الآتي: ما الذي كان يدور في عقل النخبة؟ للجواب عن هذا السؤال أستعين بكتاب صدر في ذلك العام عنوانه سلطة النخبة للعالم الاجتماعي الأمريكي رايت ملز (1916-1962) وكان سؤاله المحوري: ما الذي حدث للجماهير؟ انطلق من النظام الاجتماعي في أمريكا للجواب عن هذا السؤال. وكانت فكرته المحورية أن الجماهير لا حول لها ولا قوة, إذ القوة للمصالح المتشابكة الخاصة بالقيادات العسكرية والسياسية والرأسمالية, وأن أمريكا هي القائدة لهذه المصالح المتشابكة بعد الحرب العالمية الثانية, وأن الوحدة المحققة لهذه المصالح هي أقوي من وحدة مجتمع الجماهير لأنها هي المانعة من حدوث أي انشقاق. ولكن ملز يري أن هذه الوحدة قائمة في الكونجرس, وأعضاء الكونجرس يمثلون مصالح الطبقات العليا, وبالتالي ليس في امكانهم تمثيل مصالح الطبقات الدنيا, حتي الطبقة الوسطي التي كان من الممكن أن تحدث توازنا بين العليا والدنيا فقدت استقلالها وأصبحت تابعة للدولة, الأمر الذي أدي إلي أن فقدت الجماهير فاعليتها, وأصبح الوجه الجديد للسلطة هو سلطة الشركات الكبري والدولة والجيش ومن ثم توارت سلطة الأسرة والمدرسة والدين, وعندما اندلعت ثورة الشباب في الستينيات من القرن الماضي كان من أسباب اندلاعها كتاب ملز سلطة النخبة. واللافت للانتباه بعد ذلك هو أن مجتمع الجماهير قد أفضي إلي تأسيس مجتمع شمولي تمثل في الستالينية والنازية الأمر الذي أحدث انزعاجا من أن تكون شمولية الغرب مماثلة لشمولية الشرق, ومن ثم يصبح الغرب تابعا للشرق لأن الشرق هو الأصل في تأسيس الشمولية. والسؤال بعد ذلك: هل من بديل لانقاذ الغرب؟ تصدت فيلسوفة يهودية ألمانية للبحث عن هذا البديل, اسمها هنا أرندت (1906-1975) اعتقلت في معسكرات النازي إلا أنها هربت إلي أمريكا, وهناك أصدرت كتابها المعنون الحالة البشرية (1958) حيث ارتأت أن مشكلة المجتمع الحديث تكمن في أن الانسان الحديث لديه احساس بأنه مغترب, أي لديه احساس بالعزلة, والاحساس بالعزلة يفضي إلي الاحساس بالوحدة. ومن شأن الاحساس بالوحدة ألا تكون لديه المعلومات التي لدي النخبة. ومع بزوغ المؤسسات العملاقة لم يعد الفرد متحكما في عمله أو في دخله, ولكنه مع ذلك كان علي وعي بأن ليس في امكانه الحياة في وحدة. وهذه هي معضلته. فما الحل؟ الحل, في رأي هنا أرندت, يكمن في شخصنة السياسة, أي تكون لدي الفرد مشكلات تخصه مثل البيئة والحركة النسوية والجينات والتغذية. ومع تناول الجماهير هذه المشكلات فانها ترقي إلي مستوي النخبة. ولم تكن هنا أرندت وحدها في البحث عن البديل إذ انضم إليها اريك فروم (1900-1980). يهودي ألماني مثل هنا أرندت. في رأيه أن أمريكا ودولا بروتستانتية أخري مثل الدنمرك والنرويج والسويد تتميز بأن لديها نسبة عالية من المنتحرين والقتلة ومدمني المخدرات, ولهذا يمكن أن يقال عنها إنها مجتمعات مريضة قد مات فيها الانسان, والرأسمالية هي السبب, إذ مع كونها تدعو إلي الحرية إلا أنها تسلب انسانية الانسان وتحيله إلي مجرد سلعة. واللافت للانتباه بعد ذلك كله هو أن إشكالية النظامين الشيوعي والرأسمالي تكمن في الجماهير. فكل منهما يزعم أنه مهموم بالجماهير ومع ذلك فان الجماهير تشكو من أنها هامشية. ومن هنا ينتفي الفارق بين النظامين. والسؤال بعد ذلك: لماذا تكون الجماهير ولا تكون النخبة هي إشكالية النظامين؟ لأن الجماهير من افراز الثورة العلمية والتكنولوجية, ولا أدل علي ذلك من شيوع المصطلحات الآتية: ثقافة جماهيرية ووسائل اعلام جماهيرية ومجتمع جماهيري, وانسان جماهيري وهو الذي نسميه رجل الشارع. ومن هنا عقدت مؤتمرا فلسفيا دوليا في عام 1983 تحت عنوان الفلسفة ورجل الشارع, وكانت الغاية منه بيان أنه بدون تنوير الجماهير تكون الأنظمة الاجتماعية المتباينة متماثلة, وأن الأصوليات هي مانعة التنوير. المزيد من مقالات مراد وهبة