انشغل المجتمع، ساسة وإعلاما وجمهورا، بالقرض المبشر به من صندوق النقد الدولي. يتحدث البعض عن شروطه واشتراطاته، ويرد البعض مدافعا عن أنه برنامج مصرى مائة بالمائة. وبين هذا وذاك، وهو سجال مكرر معاد، تغيب الصراحة، والنظرة العميقة، ونهتم فقط بالمناكفات السياسية. الإشكالية، فى تقديري، ليست فى الاعتماد على المؤسسات النقدية الكونية، مثل صندوق النقد الدولي، بما سوف يترتب على ذلك من تغير حتمى فى السياسات الاقتصادية، ولكن فى الافتقار إلى وضع سياسة للإصلاح بمعناه الواسع تستفيد من خبرات دولية مهمة، ولا تكتفى فقط بالاقتصاد. الشروط التى تتحدث عنها المؤسسات المالية الدولية فى الحالة المصرية والحالات الأخرى المشابهة، هى نتاج ما يعرف ب «إجماع واشنطن»' الذى صكه جون وليامسون عام 1989م، وأضافت إليه التيارات «النيو ليبرالية» خاصة فى عهدى «رونالد ريجان» فى الولاياتالمتحدة، و«مارجريت تاتشر« فى بريطانيا. بالطبع المصطلح نفسه مضلل «إجماع واشنطن»، لأنه يفترض فيه الحسم، والاتفاق النهائى على الغايات، وهو أمر غير صحيح، حيث لا يزال الحديث مستمرا حول جدوى هذه الشروط، التى باتت تشكل ما يشبه الوصفة الثابتة للاقتصاد: التقليل من عجز الموازنة من خلال إعادة ترتيب أولويات الانفاق العام لتكون فى المجالات التى ليس لها »بعد سياسي« دون عائد اقتصادى إلى مجالات أخرى مثل التعليم والصحة والبنية الأساسية، وتوسيع القاعدة الضريبية، وخصخصة الشركات العامة غير الكفؤة، والحد من سياسات الدعم التى يترتب عليها تشوه فى السوق من خلال تحديد أسعار منخفضة عن قيمتها الحقيقية،وتحرير سعر العملة لتكون انعكاسا لحالة الاقتصاد، وحرية التجارة وإزالة القيود المفروضة عليها، والمنافسة الاقتصادية من خلال حرية دخول وخروج الأسواق الاقتصادية، التى يٌعهد إليها وحدها تحديد سعر السلع. هذه هى الصورة العامة لما تطالب به المؤسسات النقدية الدولية، وهى بالمناسبة وصفة اقتصادية أساسية- على المدى البعيد- لأى اقتصاد يريد أن يحقق النمو المستدام من خلال التجارة، الاستثمار، والاندماج فى السوق العالمية، والحد من الدعم، وتشجيع المواطنين على العمل والابتكار. وقد نجحت هذه الوصفة فى دول، وفشلت فى دول أخري. إذن هذه الشروط ليست خاطئة فى ذاتها، أو معوقة لتقدم الدول اقتصاديا، لكنها »غير كافية«، وهذا سر فشلها فى بعض المجتمعات. خذ مثالا على ذلك، خصخصة الشركات العامة غير الكفؤة، ليس عيبا فى ذاتها، ولكن المشكلة تظهر عندما تقوم بهذه العملية مؤسسات الدولة ذاتها غير الكفؤة، والتى يضرب الفساد فى أرجائها. قس على ذلك كل البنود السابقة. من هنا فإن سياسات الإصلاح الاقتصادى تهدف إلى تخليص الاقتصاد من يد الدولة، وتحويله إلى أيدى الأفراد، لكنها لا تلغى الدولة، بل على العكس تتطلب وجود دولة قوية قادرة على وضع السياسات الاقتصادية، تطبيق القانون، حفظ النظام العام، مواجهة المخاطر من عنف وجريمة وإرهاب. وهكذا نعود إلى المربع الأول: مؤسسات الدولة. هناك دراسات مهمة خلصت إلى أن النهضة الاقتصادية التى شهدتها دول جنوب شرق آسيا فى العقود الماضية أفضل من مناطق أخرى فى العالم تعود ليس فقط إلى السياسات الاقتصادية التى اتخذتها، ولكن فى الأساس إلى جودة مؤسسات الدولة، وإلى جوارها مؤسسات المجتمع التى تمكنت من تعبئة جهود الأفراد فى مجال التنمية، وهو ما يُطلق عليه »رأس المال الاجتماعي«، أى رأس المال الذى يمتلكه المواطنون من خلال قدرتهم على التعاون، والتنظيم، وانجاز الغايات المشتركة، ومواجهة التحديات المشتركة أيضا. وقد لاحظ اقتصاديون أفذاذ مثل »آمارتيا سن« و«جوزيف ستيجليتز« أن التحول الاقتصادى »من أعلي« يعرقل أى جهد على المدى القصير لتحقيق الديمقراطية، والأهم، يحول دون اصطفاف المواطنين إلى جوار الحكم فى انجاز إصلاح اقتصادى يشهد حتما إجراءات مؤلمة، وتضحيات أكيدة. والأمثلة على ذلك كثيرة، دول مثل اندونيسيا فى عهد »سوهارتو« بدت قوية من الخارج لكن ثبت ضعفها داخليا نتيجة غياب الشرعية، فى حين أن دولا مثل كوريا الجنوبية منذ عام 1997م استطاعت بفضل الصيغة الديمقراطية السائدة تطبيق إصلاحات اقتصادية مؤلمة. هذا أحد أهم الإشكاليات، إن لم يكن أهمها، التى تواجه المجتمع المصرى منذ عقود، وهى غياب التصور الشامل للإصلاح. خطة الاصلاح الاقتصادى التى بها بعض أو كل ما ذكر سابقا من تقليل الانفاق العام، وخصخصة الشركات العامة، وتحرير التجارة والعملة، والحد من الدعم، وإدماج الاقتصاد فى السوق العالمية دون تنمية اجتماعية وسياسية سوف تؤدى بالضرورة إلى تداعيات شديدة السلبية أسوة بما حدث فى بعض الدول، فالمجتمعات التى تسير على خطى اقتصادية مليئة بالأشواك تحتاج إلى مؤسسات اجتماعية تطلق مبادرات إنسانية، وتعبئ طاقات مواطنيها، مثل منظمات المجتمع المدني، والركون إلى ممارسة ديمقراطية تعزز الاختيار الحر، وحريات التعبير والتنظيم، والمشاركة العامة. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى