الصورة التي كثيرا إن لم يكن دائما تلهب خيال الناس هي صورة المجنون الذي يمشي بشعر منكوش, بأظافر متسخة طويلة وأسمال بالية, يقطع الطريق بين السيارات السريعة, غير مبال, صورة موجودة. ربما يفسر ذلك عدم اهتمام المصريين أخيرا بهؤلاء الذين يهيمون علي وجوههم, يحدثون أنفسهم أو هؤلاء الذين يصرخون في المارة, ربما لأن المجنون داخل كل منا يتعاطف مع مايحدث, أو علها تلك الخشية المرعبة من الوصول إلي تلك الحالة التي تجعل الصمت مخرجا, وربما لأن غرابة الجنون المطلق في الطريق العام قد انحسرت وفقدت أهميتها وصار ذلك الجنون أمرا منسيا, أوكأنه مفروغ منه أو أن المسألة تحصيل حاصل لإنسان سوي تماما؟.. الحقيقة أنه لا احد محصن ضد الجنون,ولا مناعة لأحد ضد انهيار أو انكسار نفسي, بمعني أن في كل أعماق كل منا بذرة الجنون, أي أن في اعماق كل منا نواة الاضطراب النفسي, التي إذا توافرت لها الظروف نبتت وتفجرت, وإذا كمنت ظهرت في صور وأشكال مختلفة ومتباينة, يؤكد ذلك أبو الحيان البصري بقوله إن الشخص السوي الكامل لم يوجد بعد, ولكن يقاس الرجل العاقل بالقدر الأكبر والقدر الأقل, فإذا كان القدر الأكبر فيه هو قدر العقل, وقدر الجنون هو الأقل فيعتبر هذا الرجل عاقلا.. والعكس صحيح. أن نفسية المصريين قضية أمن قومي توجب الاهتمام بها جيدا دون هوادة أو استخفاف. يعتقد الناس في بر مصر علي اختلاف مشاربهم أن ملاحظة الناس يكلمون نفسهم في الشارع مثلا ظاهرة تثير القلق بل والفزع, وإنها ربما علامة علي أننا اصبحنا أمة من المجانين, ويعتقد بعض المصريين الذين في الغربة حينما يقارنون بعض سبل العيش وممارسة الحياة هناك أن ثمة سلوكيات مريضة منتشرة في مصر تتفشي مع الفساد والمحسوبية والواسطة والبطالة والفقر, الزحام, الإحساس بعدم الأمان المرتبط بشدة بالخوف من بكرة من المستقل, من الآتي من المعلوم ومن المجهول أيضا, من ازياد وتعقد حجم المشاكل الأسرية وارتفاع الصوت العالي والصخب والصراخ, من ثقافة الرغي وتفاهة الحديث اليومي, من ميوعة الهدف وعتمة الرؤية وانتشار إدمان المخدرات كانتشار النار في الهشيم, هذا بجانب التعرض والإصابة بتوتر وكرب مابعد الصدمة. الذي يلي ويتبع كوارث, الانفلات الأمني والحروب وانهيار العمارات والإرهاب والعنف الذي يصل إلي حد القتل, وحرمان الإنسان المصري من حقوقه في الحياة بشكل مرض مثل الهواء النقي والماء النقي, والغذاء السليم والعمل المرضي, والستر وإبداء الرأي والمشاركة السياسية, من السهل علي المصري التأثر بما يحدث يأخذ علي خاطره بسرعة, حساس أكثر من اللزوم يتعشم قوي يؤثر فيه جدا تعرضه لخيانة أو الإهمال أو الاذي, تكون مصيبة كبيرة تضرب مفاهيمه النفسية وقناعاته, بعني آخر: عملياته الإدراكية الذهنية أي طريقة تفكيره واستيعابه لما يجري وردود فعله لها, فإذا أخذنا مثالا لجار استلف أو استدان شيئا من جاره ولم يرده الحدث والحافز سينبه ذلك في ذهن المتلقي, ذاكرته وذكرياته القصيرة الامد والبعيدة المدي تجارب ماثلة, ثم الضحك عليه فيها, يؤدي ذلك إلي البرمجة الذهنية فنجده يقول:آه..هم الناس فاكريني طيب, عبيط يعني.. ممكن يتاكل حقي ولا أطالب به ويؤدي ذلك إلي مانسميه نتائج ادراكية, بمعني أن الناس كلهم وحشين, آدي نتيجة الطيبة ومساعدة الناس في الزمن الاغبر ده, يؤدي ذلك إلي مجموعة من الانفعالات, غضب, حنق, غيظ, يتبعها سلوك ثم الاكتئاب تجنب الناس, عدم الثقة به من الانعزال عنهم, المشكلة لدينا كمصريين ليست في بساطة وتسلسل المثال السابق لكنها في أننا نختزل ونختصر الحديث إلي أسوأ سيناريو, أكبر مصيبة, كارثة, يحوي ذلك استنتاجات مبالغا فيها. المزيد من مقالات د.خليل فاضل