هناك خلط واضح بين نظام الدولة العسكرية وسمات الشخصية العسكرية مع أن الفرق بينهما كبير.. هما ليسا مترادفين وليسا بالضرورة متلازمين. تصبح الدولة عسكرية بعد انقلاب عسكري. يتولي الجيش السلطة في اطار أحكام عسكرية او عرفية. يحل القضاء العسكري محل القضاء المدني وتصبح الأوامر العسكرية هي القوانين. تنفرد قيادات الجيش بالقرارات وعادة يمارسون وحدهم وظائف الدولة الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. تظهر طبقة جديدة علي قمتها كل من يلبس زي عسكري. المكانة لهم... يتباهي بهم كل من له قريب أو نسيب في رتبة عالية. والحكم العسكري لا يتفق مع الديمقراطية فهو أوامر صارمة جامدة تقوم علي الانصياع والطاعة, لا يتصف بالشفافية بل أغلب أموره تتطلب السرية والتكتم, كما أن المشاركة والحوار تقتصر علي المستويات العليا. كل هذا صحيح, لكن الفرق كبير بين الحكم العسكري والسلوك العسكري الذي من مزاياه التي نحتاجها الحزم والانضباط, وروح الفريق ووضوح الهدف, والدقة في تحديد الآليات والاختيار الدقيق مع الاستعداد بخطط بديلة والتعامل السريع مع المتغيرات حسب قانون الموقف. لا مجال فيه للضعف والتردد او تسويف القرار فالأمر يتعلق بأرواح الآلاف بل الملايين وباستقلال الوطن وحريته. إن الذين يتصورون أننا في حكم العسكر لا يعرفون خصائص ذلك الحكم ولم يعاصروه.... ولا عانوا منه. المرحلة الصعبة التي نمر بها لاتنطبق عليها سمات الحكم العسكري سواء كان ذلك بالنسبة لسلبياتها مثل الفوضي والبلطجة وانهيار الأمن وغياب الشرطة والسماح بالمظاهرات بأنواعها والامتناع عن العمل وتجاوزات الاعلام او للايجابيات وأجملها الانتخابات الرئاسية التي لم نعرف نتيجتها سلفا شارك فيها المصريون في كل مكان. تنافس مرشحون مختلفو الخلفية والقدرات, يسعون جميعا لكسب تأييد الشارع ويخطبون ود المواطن العادي عكس ما كان الحال عليه سابقة نعتز بها رغم ما جاءت به من سلبيات. كل هذه ليست من سمات الدولة العسكرية ولا توجد بها. كما أن الحكم العسكري لايسعي لوضع الدستور ولا يسمح باحزاب ولا بتنوع الاعلام. يشهد التاريخ أن العسكريين يصلحون للحكم المدني متي تحلوا بمزايا الشخصية العسكرية وتخلوا عن أسلوب الحكم العسكري. من هؤلاء أيزنهاور من أقوي رؤساء امريكا, أمر اسرائيل بالانسحاب من سيناء فانصاعت, وديجول حرر بلاده, ونابليون أنقذ فرنسا من الفوضي التي جاءت بها ثورة من أشهر ثورات التاريخ, وبسمارك جعل من بضعة امارات متفرقة دولة عظمي, فتمكنت المانيا بما غرسه فيها من الانضباط وحب العمل واحترام الواجب أن تقوم من كبوتها مرتين. وفي انجلترا بلاد الماجناكارتا تمكن مونك في سنتين من اعادة الاستقرار بعد فوضي الانهيار الذي أعقب قتل الملك شارل. أتاتورك انتشل تركيا من فوضي عارمة وجعل منها دولة حديثة, وسالازال في البرتغال وفرانكو في أسبانيا نجحا في بناء الدولة واعادتها للديمقراطية. في منطقتنا قاد الفريق سوار الذهب انقلابا ناجحا وصل للسلطة ثم تركها لغيره, وكذلك محمد فال الصومال ترك السلطة ليجري الشعب انتخاباته. السلطة في العلاقات السياسية الديمقراطية المدنية الدستورية ليست للحاكم ولا هي للقوات المسلحة تظل دائما للمحكوم.. يفوضها للحاكم ليمارسها وفقا للاتفاق بينهما.. أي الدستور الذي يحدد مسئوليات وواجبات وحقوق كل طرف. يظل للشعب حق مساءلة الحاكم ونقده. وهو شكل يختلف عما اذا كانت السلطة للجيش وقياداته او للمؤسسات الدينية ورجال الدين, حيث يسود الخلط بين الدفاع والسياسة او بين الدين والسياسة.. ويظل الشعب, بسبب ذلك الخلط, متلقيا للقرارات وليس مشاركا في صنعها. العلاقة بين الخالق والمخلوق ليست بين أطراف متساوية او متكافئة السيادة, والسلطة فيها كاملة للخالق, الاله الأحد الصمد خالق الكل, وحده يأمر فيطاع. علاقة لا مجال فيها للنقاش والحوار او النقد والاعتراض. بينما العلاقة بين الحاكم والمحكوم عكس ذلك تماما. الخلط بينهما يضر بكليهما. ينزل بمكانة الأديان لساحة السياسة وما بها من صراعات ومواجهات ومصالح شخصية, وفي نفس الوقت يسيء للسياسة وينتقص من الديمقراطية التي تقوم علي المناقشة والمعارضة والاختلاف والتطوير وتداول السلطة. ومصر لا تحتاج دولة عسكرية ولا دولة دينية ولا دولة لا دينية. تحتاج دولة السلطة فيها للشعب والمرجعية للدستور الذي ينظم أمور الدنيا ويترك أمور الدين لأوليائه وفقهائه وهم أولي بها وللجيش مهمة الدفاع عن الوطن. نحتاج قيادات حازمة, تحترم الأديان ولاتصدر تشريعات تخالفها, والي شعب متدين يلتزم بتعاليم الأديان بوحي من ضميره وليس بأمر الحاكم, وأن تكون مصر جمهورية ديمقراطية مدنية دستورية عصرية يقوم نظام الحكم فيها علي سيادة القانون, وهيبة الدولة, والعدالة الاجتماعية والمواطنة واحترام التعددية الثقافية والسياسية والدينية كي نلحق بركب الدول التي كانت تسير خلفنا ثم سبقتنا. هذا هو الواقع, وذلك هو التاريخ, والتاريخ لايكذب ابدا ونحن اليوم نصنع التاريخ... ويقيني أننا معا علي قدر المسئولية. المزيد من مقالات د. ليلي تكلا