نجاح علماء مصر فى الخارج يشكل علامة استفهام كبيرة لا نتوقف عن الاستفسار عن مسبباتها لعلنا ندركها. يبحث هذا الكتاب الشيق «أخلاق التقدم .. رؤية فلسفية تطبيقية» لأستاذ الفلسفة المرموق د. عثمان الخشت فى موضوع يتسم بالجدية والأصالة والأهمية, على حد تعبير د. عمرو شريف فى تقديمه لهذا الكتاب الرصين. يستعرض الكتاب الشروط الأولية التى تواكب أخلاق التقدم. ومثلما توجد شروط محددة سلفاً للزراعة الجيدة من مناخ ودرجة خصوبة, كذلك التقدم، يستلزم حدا أدنى من الوسائل والأساليب التى تكفل اللحاق به. يتطرق الكتاب, فى تتابع سردى سلس وممتع, إلى فلسفة الأخلاق: التى لا يقصد بها قيم وأخلاق العلم فقط, كالموضوعية والأمانة والحياد واستبعاد الأهواء, ولكن أيضا الوسائل التى تكفل للإنسان عموماً تحقيق كل هذه الصفات فى ذاته وممارستها وتحقق الذات بطرق مشروعة ، أى وجود «مدونة أخلاقية» تحتوى الممارسات والسلوكيات والآليات التى تكفل التقدم بعيداً عن المذاهب والمشاريع الفكرية الرنانة. وتتعاظم قيمة هذا الطرح الأكاديمى الرصين حين ينبهنا د. الخشت إلى أننا مجتمع مستهلك للعلم والتكنولوجيا ومن ثم لا يمكننا خلق أخلاق التقدم رغم احتياجنا لها، فاستهلاك العلم دون إنتاجه ينطوى على نوع من التبعية للآخر من شأنها أن تكرس للتوق الدائم للرفاهية وتعزز سلوكيات الجشع وأخلاقيات التبعية. وفى فصل كامل يناقش الخلافات بين الفلاسفة الذين ربطوا الفضيلة بالعلم, مثل سقراط وأفلاطون وكانط الذى منح الأولوية للمعرفة العقلية, ولكن جاك روسو لفت الانتباه إلى ضرورة احترام (الإنسانية) لذاتها وضرورة فصل الأخلاق عن المعرفة.فالأخلاق التى تعنى بمجموعة من المبادئ والقواعد السلوكية مثل «لا تغش، لا تكذب، لا تقتل، لا تسرق» تختلف عن فلسفة الأخلاق المعنية بالبحث فى التفسيرات وأسباب الإلزام والالتزام والكشف بالبرهان عن مسوغات الفضيلة والرذيلة. ويرى د. الخشت أن المجتمعات المتقدمة بالرغم من أنها لا تتمتع بالكمال الأخلاقى وترتكب أحياناً فواحش أخلاقية كالاستعمار، إلا أنها تقدمت بفضل التزامها النسبى ببعض المبادئ الأخلاقية مثل الشفافية والمساواة والعدل وإتقان العمل والبيئة التنافسية العادلة والتعاون وانسجام خير الفرد مع خير المجتمع .. وهى لا تلتزم بهذه المبادئ مع الشعوب الأخرى لكنها تلتزم بها نسبياً داخل شعوبها .. وهى تملك مدونة أو حداً أدنى من الأخلاق الضرورية التى تدفع السلوك الشخصى إلى ممارسة فعل التقدم وهو ما تفتقده الدول المتخلفة. وبصورة بليغة يتحدث الكتاب عن الشروط الأولية لأخلاقيات التقدم بعيداً عن التباس المفاهيم والمسميات التى غيرت طبيعة المفاهيم الأخلاقية فى عصرنا وحولت الفهلوة إلى ذكاء والنفاق إلى القدرة على الاستمرار والسكوت عن الحق كمظهر من مظاهر الحكمة والتسامح ضعفاً.. حالة عجيبة من اختلاط أسماء الأفعال وموازين التمييز تشهدها بلادنا. فحين لا تكون الكفاءة هى المعيار والشللية هى القوة النافذة والوساطة هى السحر الفعال والرشوة هى الطريق الوحيد للحصول على الحقوق.. لابد أن تجنح قوافل الفساد وتتوغل عميقاً فى صحراء التيه بعيدا عن منارات العلم. ويخلص د. الخشت إلى أن «الجهاد الأكبر» هو إعمال أخلاقيات التقدم وحمايتها عن طريق تطبيق القانون بصرامة ورفض الاستثناءات وإعادة القواعد إلى أصولها، بعد أن تحول الكسل إلى حق والرشوة إلى إكرامية والتشدد مع البعض إلى «إعمال للقانون» والتساهل مع البعض الآخر إلى «إعمال روح القانون». فيجب أن يسود مبدأ «لكل حسب عمله» إذا أردنا ارتقاء أول درجة من سلم التقدم .. حتى نفلت من إسار أصوات الغوغاء والكسالى ومحدودى الموهبة والمهملين ممن يطالبون بالمساواة الميكانيكية التى تلغى الفروق الفردية. أخلاق التقدم تعنى تطبيق القانون ووجود بيئة تنافسية عادلة .. وإعلاء ثقافة الإنصاف وإجلال العمل والإنجاز وإصلاح النفس قبل إصلاح الآخرين. الحد الأدنى من أخلاقيات التقدم يعنى أن تكون إنسانا «تحب لأخيك ما تحب لنفسك», ووجود قيم ملزمة ومعيار ثابت لا يمكن لأية جماعة تهديدها عاجلاً أو آجلاً, ومكافحة الفساد بسيادة الشفافية بلا تعتيم أو مداراة. الكتاب: أخلاق التقدم رؤية فلسفية تطبيقية المؤلف: د. محمد عثمان الخشت الناشر: نيوبوك 2016