لا يلتفت الكثيرون منا إلى موسيقى الجهاز العظمى للإنسان مع موسيقى الجاذبية الأرضية ، لكن ظروف حياتى جعلت من تلك الموسيقى تحتل قدرا كبيرا من تجربة حياتى ، فمنذ سنوات الشباب كان التدريب العسكرى جزءا من حياتنا المدرسية ، وكان أن سقطت من حالق فتكسرت عظام الكتف وعشت أسير قالب من الجبس الى أن أهدتنى الحياة صداقة مع جراح عظام مقتدر هو د. أحمد زعفان وكان رحمه الله تلميذا مميزا ومتميزا لأساتذة كبارا سواء فى مصر أو إنجلترا بيت الطب الرصين ، وقرر مع أستاذه عبقرى جراحة العظام الراحل أحمس الحمامصى إصلاح خلل الجراحة القديمة ، وعدت مرة أخرى إلى الحياة فى صندوق من الجبس ، وعاصرت تفاصيل "قسم عشرين" بقصر العينى أشهر أقسام جراحة العظام على مستوى الكون ، فمعظم أطباء العظام ليسوا سوى خبراء إصلاح واحد من أهم فرق الأوركسترا الكونية وهو الجهاز العظمى للإنسان ، فخطوات المرء هى التى تنضبط على الأرض معتمدة _ دون أن نلحظ _ على مفاصل الذراعين ومفاصل الجذع المختلفة ، فضلا عن مايسترو لا نلتفت إليه وهو إصبع القدم الكبير، فلولاه لما انتصبت قامة الإنسان وقوفا . وقد يلحظ القارئ أن لى خبرة لا بأس بها فى دنيا جراحة العظام والحقيقة أن خبرتى بأنواع الطب المختلفة ذات عمق لا يأس به بحكم عمل والدى كمسئول عن كافة مرافق الصحة بالإسكندرية منذ عام 1940 عام ميلادى وحتى رحيله عام 1954. ودائما أذكر كل طبيب أتعامل معه أنه لا يؤدى عمله بالكشف على المريض فقط بل هو يتعرض إلى خبرة المريض مع الطب ، حيث يكشف المريض على الطبيب أيضا ؛ فإذا كان اول تعريف للطب بأنه «علم المناظرة» فهذا يقتضى أربعة عيون وموجز خبرات اثنين من البشر ، واحد متخصص فى مجابهة الألم بما تضمه خبراته وشهاداته من علم وحكمة ، وبين مريض تزيد خبراته على ضوء نيران آلامه التى يعانى منها . ومنذ منتصف الأربعينيات ومجيء الطبيب " إيرك برن " إلى دنيا دراسة النفس البشرية قام الرجل بإرساء قاعدة علمية تقول للطبيب لا تقف فوق منصة علمك لتنظر إلى المريض من أعلى لتأخذ منه الأعراض التى يعانى منها، ثم تقوم أنت بتسكين تلك الأعراض فى خانة ماتعلمه من أسماء الأمراض المختلفة ، فكل مريض هو " كون صغير " يوجد أمامك لتشاركه وتصحبه إلى عالم الشفاء مما يعانى . وعلى ضوء ما مضى من سطور تجربتى كان احتكاكى بالطب ، فضلا عن متابعتى بحكم المرض لتجربة صيانة القلب بقسم شريف مختار بقصر العينى ، كل ذلك لم يغب عن ذهنى لحظة أن سقطت سيدة حياتى _ زوجتى _ بعد أن إصطدمت قدمها بحجر، فكان ثقل جسمها على كف يدرها اليسرى كفيلا بكسر عظمتى الرسغ، فأسرعنا إلى المركز الطبى بمارينا لنجده على غير حاله فى السنوات السابقة، حيث كان منارة ينتدب فيه خيرة أطباء وزارة الصحة خمسة عشر يوما لكل متخصص كبير ، لكن ميزانية وزارة الصحة لم تعد تحتمل ذلك, وأصبح المركز مجرد موقع تدريب لشباب الأطباء ويلعب دور «الخبير» فيه هو السكرتير الإدارى الذى يحفظ تضاريس «الكبار» المترددين على المركز . وكان لابد أن يعلو صوتى ليأتى لى المدير الشاب الذى يسرع بإجراء أشعة تكشف الكسر ، ثم إنتقلت بسرعة إلى مستشفى العلمين الذى يشهد ببراعة إتقان بنائه وتجهيزاته لصديقى أستاذ الصدر الأشهر د. عوض تاج الدين إبان توليه منصب وزير الصحة، ثم د. حاتم الجبلى الإدارى المتميز فى تجهيز المستشفيات وهى خبرة لا يستهان بها وهو من لا أعرفه بشكل شخصى . لأجد نفسى فى مستشفى العلمين أمام كوكبة من شباب مقتدر على صيانة الإنسان ، فهذا طبيب فى الثامنة والعشرين أحمد عبد اللطيف من العمر يحفظ تفاصيل موسيقى العظام يعيش سنوات دراسة درجة الماجستير بما تتطلبه من دأب التعلم ، فالماجستير فى الطب يقال عن حامله «حاصل على درجة الماجستير»، أما الدكتوراه فيقال لصاحبها «الممنوح لدرجة الدكتوراه»، وطبعا هناك فارق بين ضرورة الاجتهاد للحصول «على درجة علمية؛ وبين «الممنوح» لدرجة علمية، ومازلت أذكر بعميق المودة كيف كان أستاذ أساتذة طب الأطفال عطية عبود يقدم الرجاء الحاسم للأساتذة الذين يمتحنون طالب الدكتوراة، يقدم لهم الرجاء بألا «يتنططوا» على الشاب الممتحن فيربكونه بينما يمر أبناؤهم من تلك الامتحانات مرور السحاب. ولا أنسى القاعدة العلمية التى أرساها الراحل الكبير نبيل يونس أستاذ أمراض النساء إبان رئاسته لذلك القسم بطب الأزهر ، فقد كان يترك خمسة من الأساتذة لمراقبة الطبيب وهو يؤدى جراحة ما، ولكل جراحة بروتوكول محدد الخطوات، والمطلوب من الأساتذة الخمسة منح الطبيب الشاب درجة على كل خطوة حسب المتفق عليه عالميا. وأشعر بمسئولية الإشادة بأحمد عبد الله وبمساعده الطبيب الشاب هيثم الوكيل ، ويرأسهما شاب لا يزيد عمره على الخمسة والثلاثين عاما ولكنه يعرف أدق التفاصيل عن تقدم جراحة العظام فصار هناك متخصص دقيق فى كل جزء من عظام الإنسان ، فضلا عن خبير دقيق فى التخدير هو حسن سعد الدين والذى أمضى مالا يقل عن خمسة وعشرين عاما فى مجابهة علم التخدير الذى تغير اسمه وتنوعت اختصاصاته فصار علم علاج الألم . طبعا عدت مسرعا إلى القاهرة دون تحمل لمبلغ جنيه واحد فى علاج تحفظى مبدئي، ولأجد نفسى مع صديق أستاذ جراحة عظام أثق فيه هو عالم العمود الفقرى ياسر المليجى الذى قام بتوجيهى إلى متخصص دقيق فى جراحة مفصل اليد هو الأستاذ د. أشرف محرم . ولاداعى لذكر التكاليف بعد الخروج من لقاء صديقى ياسر المليجى فهذا حديث يقتضى الصراخ ، ويكفى القارىء ما يسمع من صراخ آهات تتزاحم على العيادات والمستشفيات بأمل الحصول على أعلى درجة توازن موسيقى بين الجهاز العظمى والجاذبية الأرضية. لمزيد من مقالات منير عامر