من بين النوادر والحكايات العديدة الغريبة التى سمعناها ونحن صغار فى الريف حكاية خطيب المسجد الذى صعد إلى المنبر فى يوم الجمعة، وبيده كتاب قديم راح يقرأ منه خطبة الجمعة على جمهور المصلين. وبعد أن حمد الله تعالى، وأثنى على رسوله الكريم بما هو أهل له، قال: «أيها الأخوة.. إن الرَباعم والزَناطم والمؤمن كيس قُطن!». هنالك انبرى أحد المصلين المتبجحين فسأله بصوت مرتفع: كيس قطن إزاى يا مولانا؟ فرد الخطيب: أيوه يا ابنى.. يعنى قلبه أبيض! .. وما مناسبة هذه الحدوتة الآن؟ مناسبتها- أطال الله عمرك- ذلك الجدل المستعر حاليا فى الأوساط الدينية والشعبية عمّا إذا كان من المقبول أن نفرض خطبة جمعة موحّدة ومكتوبة فى ورقة ونوزعها على كل خطباء مصر ليقرأوها بالحرف على المصلين. وبصرف النظر عن حجج المتحمسين لهذا الإقتراح، أو حجج الرافضين له، فإن للقضية جانبا لم يشأ الفريقان التعمق فيه، ألا وهو: ما الحكمة من فرض خطبة الجمعة؟ هل الخطبة مجرد «مكلمة» يُشنّف بها الخطيب آذاننا نحن المصلين لعدة دقائق فنسمعها طائعين مبسوطين، فنهز رؤوسنا مستملحين، ثم نقوم للصلاة، وبعدها نغادر المسجد.. أم أن لتلك الخطبة فلسفة خاصة، غائبة للأسف عن ألباب البعض؟ إننا- بناء على الإجابة عن هذا السؤال- سوف يتحدد لنا ما إذا كان من الممكن تعميم خطبة واحدة مكتوبة فى ورقة على عموم الخطباء أم لا. أساسا أساسا.. لماذا نصلى- نحن المسلمين- صلاة الجمعة فى جماعة؟ ألم يكن ممكنا أن يصلى كل واحد منا مع نفسه، وفى بيته، وتنتهى القصة؟ إجابة السؤال حتما يعرفها كل طفل من أطفالنا. إننا نصلى فى جماعة لنشعر بأننا جميعا إخوة، لا فرق فينا بين غنى وفقير، أو بين كبير وصغير. إننا نصلى جماعة حتى نتواصل معاً (نعم.. معاً) فنناقش أمور ديننا ودنيانا. وطبعا- وبداهةً- لكى نتعلم أصول ديننا، وأداء فرائضنا، وتعاليم سنّة نبينا صلوات الله عليه وسلامه، فنتبعها ونهتدى بهديها. .. يعنى ببساطة، إن صلاة الجمعة ليست مجرد طقس شكلى عابر، أو توقيع فى دفتر الحضور والانصراف بالمسجد، أو مناسبة للنوم اللذيذ.. بل هى ضرورة من ضرورات الدين.. وضرورات الحياة أيضا. وللعلم، فإن هذه الضرورة إذا كانت مطلوبة فى الأزمنة الماضية، فإنها مطلوبة فى الزمن الحاضر أكثر. لماذا؟ لأن فيضان المعلومات، وسيل الترّهات والأكاذيب المدلوق فى عقولنا هذه الأيام من الميديا ووسائل التواصل الإجتماعى( بريئها ومغشوشها) من كل حدب وصوب لا حدود له. ومن ثم ما لم تكن درايتنا بصحيح ديننا قوية ومنطقية ومقنعة فسوف نضيع. إن الإسلام ليس دين تلقين، أو فرض للأوامر من أعلى إلى أسفل دون تمييز، أو تداول لمخزون قديم محفوظ كأنه أكياس قطن بالية ملقاة فى جرن. الإسلام دين قائم على إعمال العقل، وحرية الاعتقاد والتفكير والرأى، ومقارعة الحجة بالحجة.. وما البلايا التى نراها من داعش والقاعدة وغيرهما إلا نتيجة لتعطيل إعمال العقل والتقيد بنصوص ما أنزل الله تعالى بها من سلطان. وخطبة الجمعة- يا سادة- ليست كمالة كشرى، أو موسيقى تصويرية لمسلسل الحياة الصعبة التى نعيشها، وإنما هى روح الحوار، والجسر الذى نعبر فوقه لنفهم ديننا فنقتنع ونتدبر فنتقدم للأمام.. وهى السبيل الأهم لتحقيق تجديد الخطاب الدينى المنشود.. فكفانا استسهالا وكسلا فى التعامل معها. وعلى فكرة، إن الذى كان مكتوبا فى كتاب خطب الجمعة، ولم يستطع الخطيب قراءته قراءة صحيحة، هو التحذير من أن الزنى طَمّ( أى انتشر).. والرِبا عَمّ( يعنى تفشى).. والمؤمن طبعا كَيّس فَطِن.. (يعنى ذكى).. وليس كيس قطن كما قرأها الخطيب! لمزيد من مقالات سمير الشحات