لم يكن يخطر ببال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق "ونستون تشرشل" أحد أهم الداعين إلي الوحدة الأوروبية أو ما اسماه انذاك ب"الولاياتالمتحدة الأوروبية" أنه سيأتي اليوم الذي تكون بلاده سببا في شق الصف الأوروبي و التغريد بمفردها خارج سرب الجماعة الأوروبية. فبريطانيا التي انضمت إلي الاتحاد الأوروبي – الجماعة الأوروبية في ذلك الوقت- عام 1973 حققت مكاسب جمة من انضمامها للاتحاد. فبلغة الارقام، فإن الاقتصاد البريطاني كان يعاني لسنوات تباطؤ معدلات النمو قبل انضمامه للاتحاد الأوروبي، فقد كان يتزيل قائمة الدول السبع الصناعية الكبري، ثم ما لبث ان اعتلي صدراتها بعد سنوات قليلة من انضمامه للاتحاد محققا اسرع معدلات للنمو خلال السنوات الاخيرة اقتربت من ال3 % سنويا. وتشير عدد من التقارير الاقتصادية إلي أن الاقتصاد البريطاني-خامس أكبر اقتصاد في العالم- كان يجني سنويا في المتوسط نحو 70 مليار استرليني بسبب عضويته في الاتحاد الأوروبي، وتستوعب أسواق الاتحاد الأوروبي أكثر من نصف صادرات واستثمارات بريطانيا للعالم ،كما أسهم الاتحاد في إمداد القطاع الصناعي البريطاني باحتياجاته من السلع الوسيطة بنحو 160 مليار دولار،هذا علاوة علي الاستفادة من اتفاقات التجارة الحرة التي وقعها الاتحاد الأوروبي مع عدد من الدول والتكتلات الاقتصادية والتي ناهزت الخمسين اتفاقا. كما استفادت بريطانيا من حرية تنقل العمالة داخل الاتحاد الأوروبي حيث بلغ عدد العاملين القادمين من دول الاتحاد الأوروبي أكثر من 300 ألف مهاجر، أسهموا في الحفاظ علي مستويات الأجور وتنافسية المنتجات الإنجليزية في الأسواق الدولية. ولم تتسبب هذه العمالة في انخفاض مستويات الأجور بشكل كبير وفقا لمزاعم انصار الخروج من الاتحاد، حيث توصلت دراسة أجراها البنك المركزي البريطاني عام 2015، حول أثر العمالة المهاجرة من دول الاتحاد علي مستويات الاجور، إلي أن مستويات الأجور انخفضت فقط بمقدار 0.4% علي مدار سبعة أعوام. وأمام هذه القائمة الطويلة من خسائر الخروج من الاتحاد، فقد يضطر صانع القرار البريطاني إلي اتخاذ سلسلة من الإجراءات للحيلولة دون انزلاق البلاد في مرحلة الركود ،من بينها خفض أسعار الفائدة و زيادة الضرائب لعلاج العجز المتوقع في ميزان المدفوعات جراء انخفاض الايرادات. علي الجانب الاخر، يري أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد أن ذلك من شأنه أن يحرر الاقتصاد البريطاني من التزاماته واعبائه تجاه القارة العجوز،مثل قيمة المساهمة البريطانية السنوية في ميزانية الاتحاد البالغة 8٫5 مليار استرليني والتي يمكن توجيهها لدعم القطاع الزراعي و قطاعات حيوية أخري في الاقتصاد، كما ستتحرر بريطانيا من قيود قوانين العمل الأوروبية بما يسمح لها اختيار العمالة وفقا لاحتياجاتها والحد من تدفق العمالة المتزايد من دول أوروبا الشرقية. ويعزز المؤيدون وجهة نظرهم بأن انخفاض قيمة الجنيه الاسترليني بعد الخروج من الاتحاد سيعزز تنافسية الصادرات الي دول العالم ويسهم في توليد المزيد من فرص العمل وحفز الانشطة الانتاجية لتجنب الدخول في ركود اقتصادي . ولا يمكن القول إن الاقتصاد المصري سيكون بمنأي عما يجري في الاتحاد الأوروبي، أكبر شريك تجاري لمصر، وبريطانيا أكبر مستثمر أوروبي علي الاراضي المصرية بحجم استثمارات تجاوزت 5٫5 مليار دولار امريكي. فالخروج البريطاني من الاتحاد خلال عامين، سيحتم علي مصر إعادة التفاوض مع بريطانيا بشكل ثنائي حول مكاسب سبق الحصول عليها بالفعل ضمن بنود اتفاق المشاركة المصرية الأوروبية ،والتي يتمثل أبرزها في حرية نفاذ الصادرات المصرية من السلع الزراعية والصناعية الي السوق البريطاني دون رسوم جمركية والتي اقتربت من المليار دولار خلال عام 2015. وسيؤثر التباطؤ الاقتصادي المتوقع في بريطانيا علي تسارع وتيرة التدفقات الاستثمارية البريطانية الي مصر والبالغ اجماليها نحو 5,4 مليار دولار، خاصة في القطاعات الصناعية والخدمية. علاوة علي أن انخفاض قيمة الجنيه الاسترليني أمام الدولار و بالتبعية أمام الجنيه المصري سيحد من تنافسية الصادرات المصرية خاصة اذا أبرمت بريطانيا لاحقا اتفاقات تفضيلية مع دول منافسة مثل تركيا ودول جنوب شرق آسيا. لذا فأنه سيكون أمام المفاوض المصري تحديات كبيرة للحفاظ علي مكتسبات اتفاقية المشاركة الاوروبية واللحاق بركب الدول التي ستسارع للفوز بالفرص السانحة في السوق البريطاني. كما لا يمكن اغفال ان اهتزاز الثقة في الاسواق الاوروبية قد يؤدي الي احداث هزة اقتصادية تؤدي الي تدهور قيمة اليورو أمام الدولار، و التأثير علي الصادرات المصرية للاتحاد الاوروبي المنخفضة فعليا عن سابق عهدها . وإزاء هذا المشهد المعقد، فإنه لا يمكن التنبوء بما سيحدثه زلازل الخروج البريطاني من البوتقة الاوروبية جراء استعلاء الناخب البريطاني، والذي لا يستبعد ان تمتد تأثيراته علي الاقتصاد العالمي لسنوات عديدة حال انزلاق دول اوروبية اخري لذات المستنقع و انفراط عقد الاتحاد الأوروبي. لمزيد من مقالات د.عمرو الكيلانى