من أعظم نعم الله على عباده أن فتح لهم باب التوبة والإنابة، وجعل لهم في هذا الشهر ملاذاً آمناً، وملجأً حصيناً، يلجأ المذنب، معترفاً بذنبه، مؤملاً في ربه، نادماً على فعله، ليجد في قربه من ربه ما يزيل عنه وحشة الذنب، وينير له ظلام القلب، وتتحول حياته من شقاء المعصية وشؤمها، إلى نور الطاعة وبركتها، وأكد العلماء أن الله عز وجل دعا عباده إلى التوبة مهما عظمت ذنوبهم وجلَّت سيئاتهم، وأمرهم بها ورغبهم فيها، ووعدهم بقبول توبتهم، وتبديل سيئاتهم حسنات رحمة ولطفاً منه بالعباد. فقال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) من سورة الزمر. وأشاروا إلى أن القنوط من الكبائر، ويقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)، كما أكدوا أن التوبة النصوح المقبولة لها شروط يجب تنفيذها، وأعظم ركن في التوبة هو الندم على ما بدر من ذنوب ومعاص). من الحكمة المسارعة بالتوبة ويقول الدكتور عاصم قبيصي، مدير عام المساجد الأهلية بوزارة الأوقاف، لنا في هذه الأيام توبة صادقة والمغفرة فيها بإذن مؤكدة، لأنها أيام يحبها الله ورسوله، ويزداد فيها الإقبال على المولى عز وجل، وتزداد فيها الطاعة، هذه الأيام التي نزل مِن أجلها جبريل -عليه السلام- إلى سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم-، ليشاركه الدعاء على مَن أدرك هذه الأيام وخرج منها غير مغفور الذنب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغفر لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ. فَقُلْتُ: آمِينَ) (رواه الطبراني وابن حبان، وصححه الألباني)، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، فقال: -صلى الله عليه وسلم- (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكبر أَو أَحدهمَا فَلم يدْخلاهُ الْجنَّة) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، ومن الحكمة المسارعة بالتوبة، خاصة، وقد تأكدت في هذا الشهر الكريم، فرمضان من أعظم مواسم التوبة والمغفرة وتكفير السيئات، ففي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، كيف وقد جعل الله صيامه وقيامه وقيام ليلة القدر على وجه الخصوص إيماناً واحتساباً مكفراً لما تقدم من الذنوب؟! والعبد يجد فيه من العون ما لا يجده في غيره، ففرص الطاعة متوفرة، والقلوب على ربها مقبلة، وأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النار مغلقة، ودواعي الشر مضيقة، والشياطين مصفدة، وكل ذلك مما يعين المرء على التوبة والرجوع إلى الله. فرصة لا تعوض وأضاف، إن شهر رمضان فرصة لا تعوّض أبداً للتوبة والرجوع إلى الله، ففيها يغلق الله تعالى أبواب النار ويفتح أبواب الجنة، كما أنّ مردة الشياطين يربطها الله تعالى عن الإنسان فتصبح التوبة أسهل من الأشهر الأخرى، كما أنّ المظاهر الدينيّة التي تظهر في هذا الشهر تزيد من عزيمة المسلم على التوبة، فيجب أن نكون ذا عزيمة صادقة وابتعد عن أصدقاء السوء، وتذّكر أنّ الله غفور رحيم وارجع إليه مهما بلغت ذنوبك وخطاياك واندم على ما فات من عمرك وأقلع عن ذنبك، واعزم كل العزم على عدم الرجوع إليه ولتكن عزيمة صادقة، وادعُ ربك قائلا، (اللهم إن لم تغفر لي فمن يغفر لي وإن لم ترحمني فمن يرحمني، اللهم إني عائد إليك تائباً فبرحمتك ومغفرتك ولطفك أستغيث، لا تردني واقبلني يا من يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات)، وأكثر من ترديد (ربي اغفر لي) والاستغفار يومياً. شروط التوبة النصوح ويقول الدكتور محمد عبدالرحمن الريحاني عميد كلية دار العلوم بجامعة المنيا، أن التوبة النصوح التي أمر الله بها عباده لها شروط لابد من توافرها لكي تكون صحيحة مقبولة، وتتمثل هذه الشروط في أن تكون خالصة لله تعالى، وأن تكون في زمن الإمكان، أي قبل أن تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت الشمس من مغربها لم تنفع معها التوبة، قال تعالى: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً) سورة الأنعام، وقبل أن تبلغ الروح الحلقوم، فإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأيضا الإقلاع عن الذنب، فلا يصح أن يدعي العبدُ التوبة، وهو مقيم على المعصية، وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل: (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم) رواه مسلم، وفي حديث آخر: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة) رواه الترمذي، ألا فاتقوا الله أيّها الصائمون القائمون وتنفسوا قبل ضيق الخناق، وانقادوا قبل عنف السياق ف (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) من سورة الحاقة، وجاء في الأثر: (أن رجلاً مِن بني إسرائيل عبد الله عشرين سنة، ثم عصى الله عشرين سنة، فنظر يومًا إلى وجهه في المرآة، وقد رأى الشيب في رأسه، فقال: يا رب أطعتك عشرين سنة، ثم عصيتك عشرين سنة... أتراك تقبلني إذا عدت؟ فوجد أن جرمه شديد، فنام على تلك الحال، فرأى في المنام مَن يناديه: «عبدي أطعتنا فقربناك، ثم عصيتنا فأمهلناك، وإن عدت إلينا قبلناك). وأضاف: إن الركن الأعظم للتوبة الصادقة هو (الندم)، أي الندم على ما كان منه، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الندم توبة) أخرجه ابن ماجه، هذا بالإضافة إلى العزم على عدم العودة إلى الذنب في المستقبل، وأيضا، رد الحقوق إلى أصحابها والتحلل منهم، إن كان الذنب مما يتعلق بحقوق المخلوقين.