فى التاريخ الشخصى لأى منا أكثر من مسافة زمنية حاكمة جرت فيها وقائع غير قابلة للنسيان لما تحتويه من حقائق ملموسة ومعاشة . أتحدث عن الساعات التى تابعت فيها خروج الشعب السرى الكامن داخل سكان هذه الخريطة المصرية ، ويتغنون ببلادهم فى أحلك الظروف شوقا اليها حتى بعد أن تفئ البلاد التى هاجروا إليها بخيرات لم تعطهم مصر واحدا من مئة أو من الألف منها . وعلى مدى رحلة العمر شاهدت واقعا ملموسا لا يدحضه الا أعمى الوجدان أو غير قادر على كشف نهر المواطنة السرى النابع فى كل قلب ويختار اللحظة التى يفيض فيها غضبا أو حلما وهو فى كل تلك اللحظات يصدر أمرا غير قابل للنقض أو الابرام . ولنبدأ بواحد من آخر تلك القرارات غير القابلة للنقض أو الابرام، حين خرج التمرد الغاضب فى الخامس والعشرين من يناير يطلب الكرامة والخبز والعدالة ، بدأت الحكاية من مطلب تغيير وزير، لكن مبارك ركب حمار العناد، وترك الفرصة للمتأسلمين الذين بيتوا لسرقة التمرد الشاب ، فاحضروا نخاسا تجارة بالدين المدعو يوسف القرضاوى ليستولى على قلوب عشاق التغيير بعد أن أصبحت ازاحة مبارك عن حكم مصر أمرا مفروغا منه. وحين تحركت القوات المسلحة لحماية مسار التغيير، تلونت حرباء التأسلم ربيبة أجهزة مخابرات الغرب ، وقبل المصريون ترشح واحد منهم للرئاسة ، فى محاولة من تلك الحرباء للوى رقبة التاريخ ولتنزع عن المصرى المرتبط بالأرض من مكانه لتجعله معلقا من شعره بدعوى الولاء للخلافة، حيث يتولى الخليفة صلاحيات الخالق ، هذا الخالق المنزه بعشق المصريين لعبادته عن طريق الولاء للأرض التى ولدوا عليها. وكشف الشعب السرى بشكل سلمى عن رفضه لأفكار المتأسلمين عبر الزحام المنظم الرافض للاعلان الدستورى الذى جعل من محمد مرسى فرعونا؛ لكن أقطاب سرقة الارادة المصرية رفضوا الفهم، نفس الرفض الذى أزاح مبارك عن كرسى الحكم. واستمر الغباء فى التمادى ليتحول الى ضلال مطلق ، ولم ير المتأسلمون كيف تكون موج الازاحة الناعم ليصبح طوفانا فى الثلاثين من يونيو ، ويتمادى الطوفان ليصبح قرارا كأنه السد الحصين ضد الارهاب بقبول دعوة الفريق عبد الفتاح السيسى الذى هو أولا وأخيرا اختراع مصرى من سلسلة الاختراعات البشرية المصرية لموقع القيادة من أيام أحمس الى حور محب وصولا الى عرابى وسعد زغلول وجمال عبد الناصر، قبل المصريون دعوته بالنزول تفويضا له كى يقاوم الارهاب ، ولتبدأ رحلة لملمة أجزاء التهشم المادى فى شكل الدولة ، فتم وضع دستورها ثم انتخابه رئيسا لها، ثم اختيار مجلس نواب ينظر فى التشريع لمستقبلنا فى ظل ظروف أقل ما توصف به أنها زلزال دائم الحركة . حركة الشعب السرى الذى يخرج فى الأزمات، هى حركة قديمة رأيتها رأى العين بعد أن نصبت اسرائيل لنا فخا بمعلومات ومساندة الولاياتالمتحدة فى الخامس من يونيو 1967، كان الفخ الاسرائيلى الأمريكى قائما على دراسة ما مارسناه من خداع أنفسنا بقبول الترهل العلمى والعقلى عند بعض قيادات آمنت بأن الولاء لها له من القداسة ما تفوق قداسة الوطن أوجزه المؤرخ العسكرى حسن البدرى فى قوله «بين عبور القوات المصرية لقناة السويس فى الخامس عشر من مايو وبين انسحابها فى التاسع من يونيو انكشفت عيوب مجتمع بأكمله ولقد لمست أحداث تنحى عبد الناصر عن قرب فلم يكن يفصل بيته عن بيتى سوى سور منزله وعرض الشارع الفاصل بين بلكونة بيتى فى شارع ابن منظور . وحين شرح جمال عبد الناصر قراره بالتنحى ، خرجت من البيت لأشهد كيف ولد الشعب المصرى قرار رفض تنحى عبد الناصر؛ وفى نفس الوقت قبول ازاحة القيادات التى كان ترهلها سببا فى تلك الهزيمة. وبدأت الناس تخرج من بيوتها، وهل أنسى السيدة التى نزلت ب ز روب المنزل ز وهى تصرخ بغضب : تسيبنا وتروح فين ؟؟ تسيبنا وتروح فين ؟؟. وراح عديد من أهالى منشية البكرى يرددون ما قالته السيدة ، ثم صرخت بعد دقائق «كيس فلوسى اللى فيه مفتاح البيت ضاع مني» . وقبل أن تقول «حد شافه؟» كان هناك البقال الوحيد فى شارع بن منظور يمسك بكيس نقود ويقول لهاس هو ده كيس فلوسك؟س فتتناوله منه ليزداد الزحام الرافض لتنحى عبد الناصر بما يفوق الطاقة أو الخيال، ويمسك بيدى الطبيب «محجوب عمر» اليسارى الاشهر فى جيلنا، والذى كان قد خرج من المعتقل قبل عدة شهور ، ليسألنى «أنت من سكان المنطقة .. هل تعرف مكانا يمكننا استخدامه كمستشفى ميدانى ؟ فهذا الزحام لابد أن يوجد فيه من تأتيه نوبة قلبية أو يصاب بجرح أو اختناق«فأجيبه» على القرب منا يوجد معهد الدراسات الاشتراكية ، يمكن استخدامه كمستشفى ميداني» . ويدخل معى الى منزلى ليجرى اتصالا تليفونيا بصديق له فى مستشفى هليوبوليس ليمده ببعض المواد اللازمة للاسعافات الأولية .ثم يتراجع عبد الناصر عن التنحى وليتسلم قيادة الجيش محترف انضباط هو الفريق محمد فوزى ، ويتولى رئاسة الأركان اللواء عبد المنعم رياض . وتبدأ رحلة ميلاد جديدة لمصر غير القابلة لخداع نفسها. ويتم اعادة بناء القوات المسلحة من جيش المليون مقاتل متعلم لنعيش شجن التدريب وتعب اتصال الليل بالنهار على مدى ستة أعوام. وليأتى النصر بعد ذلك. ومنذ التاسع من يونيو 1967 يطل السؤال فى رأسى «كيف تحرك الشعب السرى ليستخرج قدرات غير مسبوقة وليجبر بها لا عبد الناصر وحده على التراجع عن التنحى، ولكنه يقبل أيضا اقالة من لا يرتقون لمستوى المسئولية، سواء عبد الحكيم عامر أو مدير مكتبه شمس بدران الذى حاول تدبير انقلاب فلم يفلح؟ أتذكر زيارة ليوسف صبرى أبو طالب الذى أصبح فيما بعد قائدا عاما للقوات المسلحة وهو من ربطتنى به صداقة عميقة ، قال يوسف صبرى أبو طالب : سننتصر فى المواجهة القادمة مع اسرائيل لا لشيء الا لأن العلم يتطابق مع العمل والترهل لا مكان له عندنا أو معنا». ومازال يشغلنى وما يحتاج منى الى مزيد من الاستيعاب، لأنه فوق الخيال والتصور ، وأعنى به قدرة المصرى العادى على الفرز والتمييز، كيف فرز بالفعل عجز مبارك عن التطور وعجز مرسى عن فهم الوجدان المصرى ، وكيف فرز المصرى العادى بين الصالح من الطالح على مستوى القيادات فيما بعد هزيمة يونيو 1967؛ وكيف أستوعب المصريون ضرورة الخروج بكامل ارادتهم فى الثلاثين من يونيو 2013؛ وهو خروج لم تكتفى بالتأثير فى المحيط العربى فقط، بل يمنح الوطن العربى طاقة انتباه لما يحيط به من مؤمرات ، فكان التفاف الخليج حول مصر لحمايتها درءا للتأمر الذى يحاك له. وهاهم فى تركيا وايران والولاياتالمتحدة، الثلاثة الذين يديرون التآمر ضد مصر، هاهم الثلاثة يتلقون ضربات من ارهاب قاموا بتربيته ولم يقدروا على التحكم فيه ، ولا نجاة لهم الا بالتواضع أمام عبقرية الشعب السرى فى بر المحروسة. ومن المؤكد انهم قد ينتبهون عندما يفيقون الى عجزهم عن ارضاخ سواء بالمتأسلمين أو بالحصار . وصار عليهم ألا ينسوا ما وضعه شعب مصر على لسان قائده «ان أدبيات التعامل السياسى الآن تختلف عن أدبيات التعامل السياسى قبل خمس سنوات». لمزيد من مقالات منير عامر