العرف السائد هذه الأيام هو هجاء الإخوان المسلمين، ووصمهم بأنهم فاسدون مستبدون أشرار. فالقاعدة تقول :"إذا أردت أن تجذب الأنظار فهاجم الإخوان"، مع أنهم ليسوا ملائكة ولا شياطين، وإنما بشر يصيبون ويخطئون، فإن أحسنوا فلهم التشجيع، وإن إساءوا فلهم التصويب. لكن من يطالع الإعلام المصري هذه الأيام يجد كما هائلا من التجني عليهم، الذي وصل إلى حد افتراء الكذب، واختلاق الوقائع، بغرض التشويه. ومما يقال في حقهم، ويلوكه الكثيرون بألسنتهم، أن الإخوان يهدفون إلى "التكويش" أو السيطرة على مؤسسات الدولة جميعا، فلديهم مجلسا الشعب والشورى، وسيقومون بتشكيل الحكومة، والآن يتطلعون إلى الرئاسة. وواقع الحال يؤكد أنه ليس في يد الإخوان لا وزارة ولا سفارة ولا بنك ولا جامعة ولا مجلس محلي، وأنه ليس منهم وزير ولا سفير ولا لواء في الجيش أو عميد في الشرطة أو رئيس محكمة أو مدير بنك أو رئيس تحرير جريدة قومية أو رئيس مجلس محلي أو محافظ أو رئيس جامعة أو عميد كلية .. إلخ. باختصار: ليس لديهم أي سلطة تنفيذية.. مع أن الوضع الطبيعي هو أن تكون هذه السلطة بما فيها الرئاسة في أيديهم، طالما لديهم مشروع إصلاحي يتطلب إقامته، وهذا هو الوضع الطبيعي في أي دولة في العالم.. حزب الأغلبية يحتفظ بأغلبيته البرلمانية، ويدفع بواحد منه رئيسا للدولة، ويقوم بتشكيل الحكومة. فالولايات المتحدة رئيسها أوباما ينتمي للحزب الديمقراطي، وهذا الأخير يتمتع بالأغلبية في مجلسي الكونجرس والشيوخ، كما أن معظم الوزارات السيادية في يده.. الخارجية والدفاع والأمن الداخلي.. إلخ. وفي تركيا يسري الأمر نفسه، فحزب الأغلبية البرلمانية هو "العدالة والتنمية"، ومنه رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، ومنه رئيس الجمهورية عبدالله جول. ولم يتهمهم أحد في تركيا ب "التكويش". وفي فرنسا كسب فرانسوا هولاند الاشتراكي -منتصف مايو الماضي- الانتخابات، في مواجهة نيكولا ساركوزي، وفي اليوم التالي مباشرة قام بتكليف صديقه الاشتراكي بتشكيل الحكومة، وهكذا أصبح رئيس فرنسا، ورئيس حكومتها، من الاشتراكيين، علاوة على كون الاشتراكيين أغلبية في البرلمان. ولم يشك فرنسي واحد من "تكويش" الاشتراكيين. إن التناغم بين مؤسسات الدولة هو الأصل في جميع الديمقراطيات.. فلماذا هو حلال لليبراليين والاشتراكيين والديمقراطيين، حرام على الإخوان، وغيرهم من ذوي التوجه الإسلامي؟ لكنهم يعودون فيقولون إن الإخوان نقضوا عهدهم، إذ قالوا إنهم لن يرشحوا أحدا للرئاسة ثم رشحوا خيرت الشاطر ثم محمد مرسي؟ والواقع أن من يردد هذا القول يفهم السياسة على أنها ثوابت فقط، وليس ثوابت، ومتغيرات.. فالإخوان كانوا صادقين عندما صدر عنهم هذا التعهد، وكان ذلك في ظروف سياسية خاصة، بدليل أن مرشحهم أخذ رقم 13، فهو آخر من رشح نفسه للسباق الرئاسي، وقد لجأ الإخوان إلى ترشيحه عندما تغيرت الظروف، وأصبح الخطر داهما على الثورة، وفشلت القوى السياسية في الاتفاق مع الإخوان على مرشح واحد للرئاسة، والآن: هل هناك خطر أشد على الثورة مما يمثله أحمد شفيق من ثورة مضادة، وعودة للنظام البائد؟ ثم ألم يقل أحمد شفيق نفسه -في حوار مع فضائية العربية- أنه لن يرشح نفسه نظرا لكبر سنه، ووجود من هو أكفأ منه.. وألم يخض عمرو موسى المعركة برغم أنه صرح في وقت سابق بأنه يرفض الترشح، ولا يفكر فيه، وحتى الدكتور محمد البراعي ألم يعد بخوض المعركة الرئاسية ثم انسحب وتراجع واعتذر، وحتى الفقيه القانوني محمد سليم العوا الذي استبعد ترشحه بذريعة أنه لا يستطيع أن يدير مكتبه فكيف سيدير دولة، ثم رأيناه يخوض المعركة برغم كبر سنه، وحتى عمر سليمان فقد رشح نفسه ثم اعتذر ثم اعتذر عن الاعتذار، مرشحا نفسه، ناهيك عن عبدالمنعم أبو الفتوح الذي خالف شورى الإخوان، ومشي بدماغه، كعادته دائما. ومما يقال هنا أيضا إن الإخوان إذا وصلوا للحكم لن يتخلوا عنه.. ويتناسى من يردد ذلك أن لدينا مؤسسات تحمي الدولة، وتتمتع بالاستقلال التام، عن أي فصيل سياسي، فولاؤها للدولة والشعب.. كالإعلام والقضاء والقوات المسلحة وجهاز الشرطة.. إلخ. ثم يقولون إن مرشد الإخوان هو الذي سيحكم مصر من وراء ستار إذا فاز محمد مرسي في جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية. فهل رأينا حكم المرشد من وراء ستار في مجلس الشعب؟ هل رأينا رئيسه الإخواني الكتاتني يتصل ذات يوم بالمرشد طالبا رأيه في أمر يخص المجلس، أم أن كل شئ عنده باللائحة؟ وهل رأينا تدخلا للمرشد، في أي نقابة، ومعظم نقبائها من الإخوان؟ ولقد كان المرشد الدكتور محمد بديع نفسه -في وقت من الأوقات- نقيبا لنقابة البيطريين، ثم خسر الانتخابات، فترك موقعه بكل احترام للنقيب الفائز.. فهل كان بديع يتلقى تعليماته من بديع؟ ثم إن شبهة الإدارة من خلف ستار تلحق بأي مرشح..أحمد شفيق وشبهة علاقته بالمجلس العسكري وجماعات المصالح المرتبطة بالنظام البائد.. وعلاقة عمرو موسى -لو كان نجح- بحزب الوفد.. وحمدين صباحي بالناصريين. وكذلك يقولون : إن "الإخوان في مجلس الشعب، انتخبناهم، ولم يفعلوا شيئا". وهي فِرية جديدة تتجاهل عشرات القوانين التي أصدرها المجلس حتى الآن.. بدءا من منع محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية مرورا بقانون الثانوية العامة عاما واحدا، ووضع حدين أدني وأقصى للأجور يشمل رئيس الجمهورية ونوابه ومستشاريه، وحتى رؤساء مجالس الشعب والشورى والحكومة.. إلخ. ولكن كانت هناك إدارة سيئة لمسألة الجمعية التأسيسية لوضع الدستور؟ هكذا يرددون. والقول الفصل هو أن المسئولية تضامنية، وإن نسبة كبيرة من برلمانات العالم وضعت دساتير بلادها، وإن قبول الإخوان بنسبة النصف في المائة من أعضاء البرلمان، والنصف في المائة من الخارج في تشكيل الجمعية التأسيسية لم يكن إجحافا بحق أحد.. وربما كانت المشكلة في اختيار المائة، لكن دلوني : كم من المصريين يتفقون على مائة شخص؟ الإخوان سيجعلونها دولة دينية.. شبهة أخرى يثيرها البعض، فما الدليل عليها؟ لقد رأيناهم يقودون "التحالف الديمقراطي من أجل مصر"، وطالعنا أدبياتهم التي تطالب بدولة مدنية ذات مرجعية إسلامية..باعتبار أن الإسلام يدعو للدولة المدنية، ولا يعرف مسمى الدولة الدينية، لأن الحاكم في الأخيرة يُعتبر "ظل الله في الأرض"، وهذا غير وارد في مصر.. لا بالنسبة للإخوان، ولا بالنسبة لأي حركة إسلامية.. تتخذ أسوتها مقولة أبي بكر -رضي الله عنه-:"وُليت عليكم، ولست بخيركم؛ فإن أحسنت فأعينوني، وإن أساءت فقوموني". البعض يردد قولا آخر أيضا هو أن الإخوان سيجعلون مصر مثل إيران. والرد هو أن مصر دولة سنية، بينما إيران شيعية، وبينما ينص الدستور الإيراني على ولاية الفقيه، وحكم الأئمة والفقهاء.. فإن مصر دولة سنية، لا تعرف ولاية الفقيه، ولا حكم الإمام، ودستورها محصن ضد هذه الأفكار الشيعية.. فأين مصر من إيران؟ الشبهات كثيرة.. لذا أقول: شئ من الإنصاف والرشد أيها المتحاملون على الإخوان..فقد حكمتنا نظم سياسية شتى محسوبة على الأفكار الاشتراكية والناصرية والليبرالية .. فلماذا لا نجرب حكم الإخوان؟ كفاكم تخويفا للناس منهم، كأنهم كائنات قادمة من المريخ، وكأننا لم نخبر تضحياتهم وجهودهم ومشروعهم الإصلاحي، من مستشفيات ونقابات، وشخصيات محترمة، وكوادر عظيمة. امنحوهم فرصة ثم احكموا عليهم، فإن أحسنوا فذلك مصلحة للبلد، وإن أساءوا فقد أمنتموهم للأبد.