أكد الدكتور كمال بريقع عضو مركز حوار الأديان بالأزهر، الأستاذ بكلية اللغات والترجمة أن قضية تجديد الخطاب الدينى ترتبط ارتباطا وثيقا بقضية البناء الحضاري. وانتقد بريقع فى حواره ل:«الأهرام»، حال المسلمين وتخلفهم عن ركب الإنسانية على المستوى الثقافى والعلمى والاقتصادى والأخلاقي، مشددا على ضرورة إعادة الثقة للعقل المسلم وتخليص الأمة من حالة اليأس التى تمكنت منها منذ نهاية العصر العباسى وحتى نهاية القرن العشرين. باعتبار ذلك الخطوة الأولى والأهم فى التجديد. وتطرق بريقع لدور الأزهر فى التجديد، وقال إن وجود الأزهر صمام أمان لحماية شبابنا من التطرف، وأن مركز حوار الأديان يعد واحدا من أهم أذرع القوة الناعمة فى مصر. وسلط بريقع الضوء على خطابات الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب وحواراته، أثناء زيارته لألمانيا فى مارس الماضي، وزيارته الأخيرة للفاتيكان واعتبرها نموذجا عمليا يعكس حيوية الدين الإسلامى وأنه لا ينفصم عن التجديد. وإلى نص الحوار. ما هى أسباب تخلف المسلمين؟ تتنوع أسباب تخلف المسلمين، فمنها ما يتعلق بداخل العالم الإسلامي، ومنها ما يتعلق بالسياسات الاستعمارية، واستغلال الدول الاستعمارية لثروات ومقدرات المجتمعات الإسلامية واستنزافها لعقود طويلة، ومحاولات الغرب الدائمة لإضعاف المنطقة، لتطويعها والسيطرة على مواردها الطبيعية ومقدراتها، وضمان تبعيتها السياسية والاقتصادية، ولكن أعتقد أن الأسباب الداخلية لتخلف المسلمين أهم بكثير من السياسة العالمية الخارجية، فقد ترك المسلمون العلم والعمل، وابتعدوا عن اتباع المنهج الإلهى الذى يدعوهم للأخذ بأسباب القوة والسعى لتسخير الكون وعمارته، وتحقيق هذه الغاية العليا التى من أجلها سخر الله للإنسان كل ما فى هذا الكون فتأخروا. ..ولماذا الإصرار على التجديد فى هذا التوقيت؟ وتزداد أهمية تناول قضية تجديد الخطاب الدينى فى ظل ظهور تلك الجماعات المنحرفة الضالة التى ترتكب كل أعمال القتل والتخريب والهمجية والوحشية باسم الدين والتى أدت إلى انهاك عديد من دول العالم الإسلامي، بل ودمرت كثيرا من تراثه وبنيته التحتية. ولعل الخطوة الأولى نحو تجديد الخطاب الدينى هى إعادة الثقة لذلك العقل المسلم، وتخليص الأمة من حالة اليأس والإحباط التى تمكنت منها وسيطرت على مشاعرها على مدار عصور طويلة تمتد من نهاية العصر العباسى وحتى نهاية القرن العشرين. هل بالفعل توقف التجديد والاجتهاد كما يروج البعض أحيانا؟ لم تتوقف محاولات العلماء عن التجديد فقد بعث الله لهذه الأمة من يعمل على تجديد أمر دينها أمثال الإمام أبى حامد الغزالى والرازى وابن خلدون وابن رشد وابن حزم وكثير من شيوخ الأزهر، أمثال الشيخ العطار والشيخ محمد عبده والشيخ المراغى والشيخ شلتوت، والذين كان لكل منهم نصيب وافر فى تجديد بعض العلوم والمعارف، ناهيك عن جهود الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب لتجديد الخطاب الدينى والتى تأتى فى مرحلة من أصعب المراحل التى تمر بها الأمة الإسلامية عبر تاريخها الذى يتجاوز أربعة عشر قرنا، وبخاصة زيارة فضيلته الأخيرة لألمانيا فى مارس الماضي. كيف قرأت هذه الزيارة وإلى أى مدى ترتبط بتجديد الخطاب الديني؟ هذه الزيارة تبعث لنا برسالة مهمة مفادها أننا قادرون على تقديم خطاب يواكب روح العصر ومستجداته، وذلك من خلال قراءة واعية ومتأنية لنصوص تراثنا السمح الحنيف، ولترسم لنا معالم منهج متكامل لإحياء خطاب دينى يعبر عن مرونة الشريعة الإسلامية وعظمتها ويسرها، ولا شك أن رؤية الإمام الأكبر تنطلق من حقيقة أن “التأمل الهادئ فى طبيعة رسالة الإسلام – كبيان من الله للناس يتخطى حدود الزمان والمكان- يبرهن على أن مسلمة “التجديد إن لم تكن هى والإسلام وجهين لعملة واحدة، فإنها – على أقل تقدير- إحدى مقوماته الذاتيه، إذا تحققت تحقق الإسلام نظامًا فاعلا فى دنيا الناس، وإن تجمدت تجمد وانسحب من مسرح الحياة، واختزل فى طقوس تؤدى على استحياء فى بعض المناسبات”. إن خطابات الإمام الأكبر وحواراته، وإجاباته على أسئلة علماء الغرب ومفكريهم فى البوندستاج وفى جامعة مونستروهى واحدة من أعرق جامعات ألمانيا وفى قاعة السلام التاريخية، تقدم أنموذجا عمليا يحتذى به ويعكس حيوية ذلك الدين الحنيف الذى لا ينفصم عن التجديد. ولا شك أيضا أن هذا النوع من الخطاب يمثل تحديًا كبيرا لمفكرى الغرب الذين دأبوا على محاولة الترويج للثقافة الغربية كبديل حضارى عن تعاليم الإسلام الحنيف. وقد تمركز خطاب فضيلة الإمام الأكبر فى البوندستاج الألمانى حول محاور محددة فى التشريع الإسلامى تشغل العقلية الغربية مثل قضية الجهاد وحرمة قتال غير المسلم بسبب رفضه للإسلام أو أى دين آخر، وموقف الإسلام من أهل الكتاب وقضية المرأة وكيف أنها فى الإسلام شريكة للرجل وأكد أن المعاناة التى لحقتها إنما كانت بسبب مخالفة تعاليم الإسلام، وإيثار تقاليد عتيقة وأعراف بالية لا علاقة لها بالإسلام، كما أوضح فضيلته أن التعَدُّديَّة بينَ النَّاس واختلافُهم طبيعة قرَّرها القُرآن الكَريم، ورتَّب عليها قَانُونَ العَلاقَة الدَّوليَّة فى الإسلام، وهو “التَّعَارُف” الذى يَسْتَلزم بالضَّرورَة مبدأ الحوار والتعاون مع من نتفق ومن نختلف معه، وهذا ما يَحتاجه عالَمُنا المُعاصِر -الآن- للخروج من أزماته الخانقة. إن خطاب الإمام الأكبر يرسخ لعلاقات الإخاء الإنساني، والسَّلام العالَميِّ بين الشَّرق والغَرب بصفة عامَّة وبين الأزهر والمواطنين المُسْلِمين فى أوروبا بصفة خاصة، فما أحوجنا أن نضع هذا الخطاب موضع البحث والدراسة، بل لا بد أن نعلمه أطفالنا وطلابنا فى قاعات الدرس ودوائر البحث العلمية لتتحقق الفائدة المرجوة منه والتى ستنعكس بالضرورة على نهضة مصر وأمنها واستقرارها. كيف نحصن مسلمى الغرب من محاولات التشكيك فى الإسلام ورسوله؟ بالفعل يقوم الأزهر بهذا الدور لأن حماية الشباب داخل مصر وخارجها من الفكر المتطرف تأتى على أولويات مؤسسة الأزهر ويعتبر أنها من واجبات الوقت الحالي، ولعل الناس يدركون أن وجود الأزهر فى مصر يمثل صمام الأمان لحماية شباب مصر من الانزلاق فى هاوية أفكار الجماعات الإرهابية، ولعلنا جميعا نتذكر تلك المراجعات الفكرية التى بدأت فى التسعينات من القرن الماضى والتى كان للأزهر الشريف دور فاعل فى تفكيك أفكار هذه الجماعات الإرهابية وعودتهم إلى صحيح الدين وتوقف تلك العمليات الإرهابية التى كانوا يقومون بها على أرض مصر وهذا بالإضافة إلى الجهود الأمنية فى هذا الجانب الأمر الذى جعل مجلة فورين بوليسى الأمريكية تضع مصر فى المرتبة الثالثة على قائمة الدول الأشد مكافحة للإرهاب، ومع ظهور داعش الإرهابية، قام فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب فى شهر يونيو عام 2015 بتأسيس مرصد الأزهر باللغات الأجنبية والذى يضم مجموعة من الكوادر الشبابية الذين يجيدون اللغات الأجنبية ومن الباحثين فى مجال العلوم الشرعية ليكون عين الأزهر الناظرة فى العالم، ويحصن شباب الأمة داخل مصر وخارجها من الوقوع فريسة فى براثن الفكر المتطرف، وحمايتهم ضد خطر الاستقطاب، ومكافحة “الإسلاموفوبيا” ومناهضة جرائم الكراهية التى ترتكب فى الغرب ضد المسلمين والرد على الشبهات، وذلك من خلال بيان حقائق الإسلام الناصعة المستمدة من الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة. والمرصد يعمل بثمانى لغات أجنبية حية، ويستهدف زيادة عدد هذه اللغات من خلال إضافة لغات آخرى كاللغة المالاوية والإيطالية وغيرهما. ولا يتوقف عطاء الأزهر للأمة الإسلامية والتى دائما تتطلع إلى دوره، وتأنس إليه وتطمئن به وتحتمى بحصونه الراسخة والتى تمتد فى مصر والعالم الإسلامى لما يزيد على الألف عام.