فى الطرقات والشوارع والأرصفة .. فى الأتوبيسات وإشارات المرور وأمام المستشفيات.. قد يكون طفل أو فتاة أو شيخ هرم أو امرأة عجوز.. أرملة تسعى على يتامى ..أم تجمع مصاريف عملية لصغيرها أو لزوجها الذى تعرض لحادث..فتاة أو امرأة منتقبة ثلاثينية تعترض المارة بقولها: «ممكن جنيه!». إنهم المتسولون الذين يتفاقم انتشارهم فى شهر رمضان وكأن شهر رمضان موسم سنوى لهم، يتفننون فى صور التسول وأسباب سؤالهم ويبدعون فى دغدغة مشاعر المارة، بأساليب مختلفة وأعذار متنوعة، لتجد أنك فى النهاية ليس أمامك خيار سوى العطاء لهم..رغم أن غالبيتهم يكونون غير محتاجين وليست لديهم أى ظروف مما يدعونها. هذه الظاهرة يرفضها علماء الدين ويدعون إلى محاربتها بشتى السبل، ويوضح الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر الأسبق، أن التعاطف مع المتسولين يحيلهم إلى محترفين يحترفون السؤال بل ويبتزون المارة بسؤالهم إذا ما منعهم البعض، وما شجعهم على ذلك سوى التساهل معهم، خاصة فى شهر رمضان، لذلك فإذا دققت فى بعضهم تجده شابا فتيا ويسأل الناس، فتاة تقوى على العمل وتسأل الناس، وربما إذا عرضت على أحدهم بعض فرص العمل رفضوها استغلالا لعائدها مقارنة بما يحصلونه من ابتزاز الناس. لذا فيجب على الموسرين وأصحاب الأموال البحث عن الفقراء وأهل العوز والاحتياج الحقيقي، وأين الذين نحسبهم أغنياء من التعفف لماذا لا يبحث المتصدقون عن هؤلاء، فذلك أولى إن أردنا أن نفوز بالأجر من الله عز وجل، فأموالنا أمانة الله سائلنا من أين اكتسبناها وفيم أنفقناها. وقد ورد فى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال مامعناه».. وليس المسكين الذى ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، إنما المسكين المتعفف الذى لا يجد غنيا يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا»، وهؤلاء الذين يقول الله فى حقهم «يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا، وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم»، فليس يعنى التصدق أن أعطى أى سائل أو مفترش طريق، ولكن أن أتحرى أصحاب الحاجة الحقيقيين، لأن العطاء للمتسولين معناه حرمان للمحتاجين، وخصم من حقهم الذى جعله الله لهم فى أموال الأغنياء. ويقول الشيخ محمد عبد الفتاح، وكيل وزارة الأوقاف سابقا: كما يجتهد كل منا فى تجارته حتى يربح ويتحرى عن شريكه ليحقق معه ربحية أكثر، فينبغى كذلك أن نجتهد فى التحرى عمن يشاركنا فى تحقيق الأجر ويكون سببا لنصل إلى رضا الله عز وجل، وكما تتحرى عن حقوقك، فتحر أيضا فى أن يصل حق الله فى مالك إلى المحتاج الحقيقي، وبقدر التحرى والبحث عن المحتاج الحقيقى يكون الأجر والثواب من الله. وليس للمحتاج أن يذل نفسه ويهينها ويتوسل الناس ويتسول حقه لدى أصحاب الأموال كى ينال شيئا من الزكاة أو الصدقة، بل الأصل أن نبحث نحن أى المتصدق نفسه عن ذلكم الفقير المحتاج ونصل إليه حيثما يكون ونعطيه حقه الذى جعله الله فى أيدينا. وقد عبر القرآن الكريم عن هذا الحق صراحة فى قوله تعالى «وفى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم».أى أن ما يحصله الفقراء من الأغنياء حق لهم ليس للأغنياء أن يمنعوهم إياه. وأضاف الشيخ محمد عبد الفتاح أنه لا مانع من أن نخصص جزءا ولو يسيرا من أموال الصدقات لبعض المتسولين الذين نعتقد فى تسولهم ويدأبون على السؤال، مع الدعاء لهم بالهداية والصلاح، وذلك اتقاء لشرهم وسدا لأفواههم. فبعض المتسولين قد ينال منك إن لم تقدم له صدقة، خاصة إذا كان فى طريق يقل فيه المارة أو وقت تسكن فيه الحركة. ويقول الدكتور حسين بودي، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر فرع أسيوط، إن ما ساعد على ظاهرة التسول هو استسهال الناس وتهاونهم مع كل سائل، وإعطاؤه مع غلبة الظن على عدم حاجته، وذلك يساعد على البطالة فلماذا يعمل المتسول أو يبحث عن عمل شريف إذا كان يمكنه أن يحصل فى اليوم الواحد على أضعاف ما يتقاضاه أى عامل أو موظف؟، بل إن البعض يستخدم الأطفال وبعض السيدات تتنكر فى النقاب لاستدرار تعاطف الناس لأننا فى مجتمع متدين بطبعه يتعاطف مع كل من يتزيى بزى الدين، ولو لم يكن متدينا، وذلك أيضا ينال من المتدينين ومن الدين الذى يتخذونه ستارا لتسولهم. ففى ظل شيوع ظاهرة التسول يبقى على الجميع أمران، الأول خاص بالمتصدق نفسه أن يتحرى ويبحث عمن يعطيه صدقته، وأن يرفع الجميع شعار لا للمتسولين، سواء فى رمضان أو غير رمضان، ولتكن الصدقة موجهة إلى مستحقيها الحقيقيين لا المدعين أو الزائفين، وإلا فليوجه الصدقة إلى أى من الجمعيات الخيرية التى يلتمس فيها الجدية والمصداقية فى عملها. أما الأمر الآخر فيتعلق بالفقير وصاحب الحاجة الحقيقى الذى ينعكس عليه هذا الأمر فحينما يعزف الجميع عن المتسولين إلى من يتوجه المحتاج، خاصة أنه لا شك أن نسبة من هؤلاء السائلين ولو ضئيلة جدا، قد تكون محتاجة حقا، والعزوف المطلق قد يضر بهم ويحرمهم، لذلك فينبغى للمحتاجين والفقراء أن يتوجهوا كل بحسب موطنه إلى الجمعية أو الجهة التى تتولى القيام على أعمال الخير وإخراج الصدقات بتسجيل اسمه بها ويعرض حاجته، ويحصل على حقه الذى جعله الله فى ذمة الغني، فالفقير يأخذ من الغنى حقا كفله الله له ولا يجوز للغنى أن يمنعه ذلك. ولو طبقت كل منطقة هذا الأمر على قاطنيها لاكتفى فقراؤها، وما وجدنا عريانا أو جائعا أو معوزا، ولجففنا أيضا منابع التسول ووجهت طاقات هؤلاء المتسولين إلى البناء والعمل والإسهام فى نهضة المجتمع. واختتم بودى بتأكيد أنه بحرص المزكى على إيصال زكاته للمحتاج الحقيقى ينال أجرين، الأول أجر ما يخرجه من مال الله الذى اؤتمن عليه، والثانى أجر بحثه وتحريه أحقية من يعطيه ماله، وذلك من حسن العمل وإتقانه الذى وعد الله به تعالى فى كتابه «إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا».