قبل نحو أربع سنوات, شاركت في مؤتمر في سيناء, بورقة عمل عنوانها أمن مصر القومي وتنمية سيناء, ويومها علمنا أن هناك علي خط الحدود مع إسرائيل, مساحة خضراء منزرعة علي الناحية الاخري, بينما المساحة المتاخمة لها علي حدودنا رملية صفراء وقيل يومها تفسيرا لهذه المفارقة إن الآخرين يزرعونها من المياه الجوفية, الموجودة علي الناحيتين تحت ارضهم وأرضنا لكننا لم نستغل مياهنا لتخضر أرضنا. هذا المشهد هو رمز لاشياء عديدة بلا حصر, جري التعامل فيها بنفس الطريقة مع مواردنا المادية والبشرية علي السواء بحيث كان العجز في الفكر وفي القرار صانعا للمشكلات التي راحت تتراكم يوما بعد يوم حتي حل الاحباط ثقيلا علي المصريين. الآن نحن في بدايات ثورة جري تعويق مشوار اكتمالها, لكي تنهض بمصر وتقيم الدولة الجديدة القوية والثورة قامت لاسقاط نظام بمنظومة تفكيره وسلوكياته وإعادة بناء الدولة بفكر متغير عما كان وتلك امانة معلقة في رقبة الرئيس المقبل, وسيكون معيار جديته وصدق مقصده رهنا بوضع أهداف الثورة موضع التطبيق ووضوح رؤيته في صياغة مشروع قومي بمقاييس العصر للتعامل مع كل المشكلات والقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, ومن خلال نظرة ذات أبعاد استراتيجية لا تجزئ الخطي والإجراءات وتعي أولا وأخيرا أنه يمثل شعبا له خصائص تاريخية ممتدة لآلاف السنين وانه اختير ليستلهم من روح وطاقة هذا الشعب, لا أن يفرض عليه من عنده. فهو وسط المحيط الشاسع بلا نهاية لمصر مجرد فرد رئيس حتي ولو كان منتميا لحزب أو احزاب موكل إليه مهام لفترة زمنية محددة وقصيرة. إن الخروج من الكهف المظلم؟ للنظام السابق, يبدأ برسم خريطة جغرافية معلوماتية لمصر تحصر كل ما تزخر به من بشر وموارد. ولا تبدد جهودا بذلت من أجل مصر عبر عشرات السنين الماضية أنتجت دراسات وتجارب ومشاريع للنهوض بالزراعة والتصنيع واستخدام مصادرنا لإنتاج الطاقة وغزو الصحراء, لكنها وضعت في أدراج مغلقة لأن النظام السابق كان قد تبني مبدأ الاستيراد جلبا للعمولات بالملايين. والأمثلة عديدة وبلا حصر, وهنا استشهد بنموذج واحد فقط, حين قدمت الوكالة الدولية للطاقة الذرية منحة لمصر لقيام علماء مصريين بإجراء ابحاث لإنتاج مبيدات زراعية محلية توفر لمصر مبيدات آمنة وتغنيها عن الاستيراد, وتتيح لها التصدير من ناتجها, وإذا نجحت الابحاث تقدم الوكالة لمصر معونة لإنشاء مصنع لإنتاجها, وبذلك توفر فرصا للعمل تحل جزءا من مشكلة البطالة. وقد نجحت الابحاث, وزف علماؤنا الخبر للقيادة السياسية صاحبة القرار, فصدر لها في الحال أمر بايقاف المشروع لأنه كان سيضيع عليهم ملايين العمولات في كل صفقة مستوردة. كل المشاريع التي جمدت والدراسات التي وضعت علي الرف وهي كثيرة جدا تحتاج ادخالها ضمن الاستراتيجية الشاملة للتنمية, متضمنة ابتكار خطط ومشاريع جديدة, لاتستبعد أي فرصة يمكن استثمارها علي أرض مصر من أقصاها إلي اقصاها فضلا عن الاستفادة من تجارب ناجحة في آسيا وأمريكا اللاتينية. الرئيس وحده لايستطيع ان يحقق نهضة أو تقدما فهناك شروط أثبتتها تجارب الدول الناجحة من أهمها قدرته علي أن يجمع حوله فريقا قويا من المعاونين, من أهل المعرفة والخبرة والخيال, بمعايير الانتماء علي الانجاز وليس بمعايير القدرة لشخص الرئيس أو للحزب الذي جاء منه, وأن يكون الرئيس نفسه شخصية قيادية قادرا علي تنظيم عمل معاونيه, وأن يفسح لهم مساحة واسعة من حرية التفكير لكي تتحرك عقولهم دون قيود حتي يعطوه أفضل ما لديهم من أفكار وتصورات في المشكلة المعروضة أمامه. وإذا كنت قد بدأت حديثي بنموذج الشريط الرملي الاصفر علي جانبنا من الحدود فقد أردت التنبيه إلي مكون جديد لقوة الدولة كان قد تبلور في الفكر السياسي العالمي في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين بناء علي الرصد والدراسة واستخلاص الدروس من تجارب الدول التي نهضت خلال تلك الفترة, وهو مكون القدرة الاقتصادية التنافسية التي صعدت إلي قمة مكونات الأمن القومي للدولة وصارت مفتاحا لقوتها ونفوذها ومكانتها اقليميا ودوليا وصارت تحسب كقوة ردع مساوية للقدرة العسكرية. ولاينفصل عن هذا تعزيز خط الدفاع عن الأمن القومي في الداخل والذي تضاعفت أهميته منذ حدوث تطور في مفاهيم السياسة الخارجية للدول الرئيسية في العالم التي صارت تعتبر أمورا تجري داخل دول بعيدة عنها شأنا يخصها إذا كان يمس الديمقراطية وحقوق الإنسان من زاوية فهم هذه الدول وفلسفتها لأمنها القومي, وهو ما يستدعي ان يكون الرئيس واعيا لما تغير في مبادئ السياسة الخارجية والأمن القومي لدول يتعامل معها بالضرورة. وهنا يظهر بوضوح تام معني تعزيز خط الدفاع في الداخل, والذي يتحقق بالمشاركة الجماعية من المواطنين في إطار من التوافق الوطني. ويكمل ذلك وضع مبدأ العدالة الاجتماعية علي رأس أولويات الرئيس المقبل, خاصة ان مصر تعاني خللا اجتماعيا خطيرا جعل نسبة الفقراء تصل إلي 40% من مجموع السكان, ان العبء علي عاتق الرئيس المقبل ليس هينا فهو ليس مكلفا بالانتقال من نظام إلي نظام لكنه مطالب بانتشال بلد ألقي به في قاع من الجمود والافقار, ثم إعادة بنائه من جديد, وتلك مهمة تقتضي حشد مختلف العقول من أصحاب المعرفة والخبرة والتخصص, فنحن لسنا في مرحلة ترميم لكننا أمام مسئولية إعادة بناء دولة ضاع من عمرها عشرات السنين. المزيد من مقالات عاطف الغمري