لآن في مصر أشياء لا تحتمل التأجيل والانتظار, فلدينا حكومة تجاوزت مرحلة تسيير الأعمال, وصارت حكومة انقاذ وطني.. اي حكومة عمل, ينتظر منها أن تقيم الأساس الذي تبني عليه دولة مدنية حديثة, كهدف أولي لثورة25 يناير, والانطلاق نحو التقدم والنهضة. وحتي لا تجد الحكومة القادمة التي ستأتي نتيجة انتخابات ديمقراطية, وكأنها تبدأ من أول الطريق, فنحن ومنذ25 يناير نعيش فترة مشحونة بتصاعد الآمال, ممزوجة بمشاعر القلق وعدم اليقين, ووجود طاقة عالية من التوقعات المتلهفة علي ان تري من الآن بوادر ومؤشرات علي أن المستقبل قد بدأ يصنع في مصر. ومن أجل ضبط حركة التفاعل بين تلك المشاعر المتوافقة أحيانا, والمتضاربة احيانا, نحتاج أن نبدأ ودون تأخير في إرساء هذا الأساس. واذا كان الهدف المتفق عليه بشأن وضع دستور جديد دائم, قد حفز قوي وطنية للتفكير في البدء في ترتيب جلسات عمل لعلماء وخبراء مختصين ومفكرين, لوضع تصورات لهذا الدستور, حتي تكون مسوداته جاهزة أمام اللجنة,التي ستشكل وفق مانصت عليه التعديلات الدستورية التي جري الاستفتاء عليها, بعد الانتخابات القادمة لمجلس الشعب, فإن هدف إقامة الدولة الحديثة وحلم التقدم والنهضة, يقتضي البدء من الآن في الإعداد لمؤتمر لأهل الاختصاص لوضع أسس المشروع القومي الذي يحقق هذا الهدف. وهو ما يتأتي عن طريق تنظيم مجموعات عمل متخصصة يكلف كل منها بجانب من جوانب هذا العمل الوطني. والمشروع القومي هو صحوة وطنية تلبي احتياجات وطنية في ظرف زمني معين, وتمليه درجات إلحاح الأولويات الوطنية, للوصول الي أهداف تنهض بالأمة. وهذا المشروع لابد ان ينطلق من فكر استراتيجي شامل, وليس من أفكار مشتتة موزعة علي مشاريع اقتصادية وتنموية, كل منها يمضي في طريق, بلا عمود فقري, يربطها جميعا معا. وأمامنا تجارب الدول التي عرفت بالدول الصاعدة اقتصاديا في آسيا, وأمريكا اللاتينية وإفريقيا, والتي انطلق صعودها من فكر استراتيجي محدد الملامح, يشتمل بشكل عام علي خمسة عناصر رئيسية هي:1 تحديد الدولة لهويتها داخل حدودها, وكذلك في نطاق ارتباطاتها الاقليمية. 2 الهدف الذي تريد بلوغه. 3 حصر ما لديها من موارد مادية وبشرية, ماهو مستغل وماهو معطل. 4 ضمان تحرك كافة قطاعات الدولة في تناسق وتكامل في اتجاه الهدف. 5 استيعاب ذلك في اطار خطة لها جدول زمني, وآليات تنفيذ معروفة, مع متابعة ومحاسبة في إطار دولة القانون. لقد تعرضت مصر في ظل النظام السابق, لسلوك منظم من العداء لفكرة الإنتاج, وحل المشاكل الاجتماعية مثل البطالة, والتعليم, والصحة, وانعدام السياسات لحلها, وفقدان النظام الحاكم اي رؤية استراتيجية للحكم الرشيد, بحيث كان يقوم بتسيير أمور الدولة, بلا سياسات تصنع التقدم, وينكر أهلية الشعب في أن يكون شريكا في القرار, حتي إننا كنا نسمع منهم مقولات مهينة للشعب وكرامته الوطنية, مزيفة للحقيقة, منها قولهم ان شعب مصر ليست لديه ثقافة الديمقراطية, مع أن النظام كان يفرض علي المجتمع فرضا ثقافته المحرضة علي الهبوط والتدني, ومنها القول المتكرر بأن مصر دولة فقيرة في الموارد. بينما الشعب يعرف ويري حتي وان عدموا هم البصيرة ولا كانت شديدة الفقربلا أي موارد تصلح لأن تصنع أو تزرع, وصارت في خلال سنوات قليلة دولا متقدمة وصاعدة, لأنها امتلكت الفكر الاستراتيجي الذي شيدت عليه مشروعها القومي. ويمكن الاستشهاد بنموذجين يصلح كل منهما ليشكل قاعدة صلبة ضمن قواعد المشروع القومي المنشود. أحدهما يتعلق بالمشروع القومي لتنمية سيناء, وهو الأهم والأساس الذي يمكن ان يمثل العمود الفقري للمشروع القومي وهو ما أتيحت لي الفرصة في عامي2008, و2009 للمشاركة في مؤتمرات خصصت له, بعضها عقده في القاهرة مركز الدراسات المستقبلي الذي يديره الدكتور محمد ابراهيم منصور, وشارك في جلسته الأولي ثلاثون من العلماء والخبراء ممن كان لهم اتصال عملي مباشر بالمشروع الذي بدأ رسميا عام1994, ثم أقدمت الدولة بفعل فاعل علي إلغائه بعد سنتين من بدء تنفيذ مراحله الأولي وبعضها سافرت الي سيناء للمشاركة في جلسات مؤتمر بشأنه استمر ثلاثة أيام. هذا المشروع الذي تعرض لطعنة في الظهر, كان يهدف الي توطين أربعة ملايين مصري في سيناء البالغ مساحتها61 ألف كيلو متر مربع, والتي يسكنها360 الف شخص فقط, وإقامة مجتمعات عمرانية متكاملة, ومشاريع تستغل موارد سيناء زراعية وصناعية وتعدينية وتنمية الثروة الحيوانية والسمكية, والأنشطة التجارية, والسياحية. أضف الي هذا هدفا حيويا لأمن مصر القومي, بعدم ترك سيناء فراغا عمرانيا وبشريا, ليكون ذلك حائط صد أمام أي اطماع خارجية. النموذج الثاني: وهو ما نعرفه عن وجود كثير من البحوث والدراسات التي اعدها علماء متخصصون في اقتصاديات تعمير وتنمية الصحراء, وبعضها موجود في معهد الصحراء بالقاهرة, وهو ما يقضي بتوجيه الاهتمام الغائب نحو الصحراء التي تمثل96% من المساحة الكلية لمصر, وحيث يسكن المصريون فوق4% فقط من مساحة مصر. وبخلاف هذين النموذجين, فإن المشروع القومي حين يوضع وفق منظومة تحمل استراتيجية, فلابد ان يشمل كل ما تحويه مصر من مناطق غير مستغلة أو موارد معطلة اقتصاديا, وسبق العلماء وخبراء ان شغلتهم هذه القضية, وقضوا سنوات في وضع دراسات وخطط, لم يلق لها أحد بالا لأنها ضد منطق تفكير واهتمامات وشواغل النظام السابق, وهناك الكثير من مشروعات الفرص الضائعة, التي أهدرت إما بقرارات بالقضاء عليها في مهدها لأنها ظلت تتردد كأفكار نظرية لإلهاء المهتمين بها, وكان منها مشروع المدينة التكنولوجية الصناعية المتقدمة شمال غرب خليج السويس, باتفاق مع الصين, والذي قضي عليه بإرادة اصحاب المصالح المتضخمة, في الحزب الوطني المنحل وأفكار التنمية الاقتصادية والعمرانية للظهير الصحراوي للساحل الشمالي وعدم الاهتمام الواجب بالدراسات عن استغلال زراعات بيئة غير تقليدية في مناطق نائية, وإغماض عين القانون عن الغزو التتاري علي بحيرات مصر الغنية بالمأكولات البحرية, وردم مئات الألوف من الأفدنة فيها, تحت سمع ونظر الدولة, ولتظل مصر دولة مستوردة ل70% من احتياجاتها من الموادالغذائية. ويبقي ان التفاف الشعب حول مشروع قومي, هو الآن مطلب له أولوية قصوي, وحتي يظهر في الأفق ضوء كاشف يضبط حالة التفاعل في المجتمع بين مشاعر القلق وعدم اليقين, والتوقعات الفياضة بالأمل والتفاؤل, ويظل مشروع تنمية سيناء هو العمود الفقري للمشروع القومي لنهضة مصر ومستقبلها. المزيد من مقالات عاطف الغمري