يعكس اللقاء التاريخى بين الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر وبين بابا الفاتيكان فرانشيسكو, العديد من الدلالات المهمة سياسيا ودينيا تتمثل فى: أولا: أن اللقاء, والذى يعد أول زيارة لشيخ الأزهر للفاتيكان, يمثل نقلة نوعية فى العلاقات بين أكبر مؤسستين دينيتين فى العالم, والتى تعرضت لبعض التوترات نتيجة لتصريحات البابا السابق بنديكت السادس عشر فى 2011 وتربط بين الإسلام والعنف, وأدت لتجميد حوار الأديان بين الجانبين, استمر لخمس سنوات, ولذلك فإن استئناف الحوار الدينى يكتسب أهمية كبيرة فى ظل تصاعد حدة الاحتكاكات والتصادمات الدينية فى كثير من مناطق العالم. وإذا كانت تجربة الحوار السابقة لم تحقق خطوات ملموسة على الأرض حيث استغرقت فى تفاصيل الاختلافات الدينية وجدل الحق والصواب فى العقيدة, فإن نجاح الحوار الدينى فى نزع فتيل الكراهية والصراع وتدعيم السلام فى العالم ينبغى أن يكون على أسس جديدة يرتبط بالهدف من الحوار ويرتكز على مبدأ الاختلاف سنة والتعايش واجب, وأن يكون الهدف هو إيجاد دائرة مشتركة بين أصحاب الديانات السماوية وغير السماوية تجعلهم متحدين على الأهداف الإنسانية العامة ومواجهة التحديات العالمية مثل الإرهاب والتعصب والأمراض والفقر وأخطار التغير المناخى. ثانيا: شهد العالم فى العقدين الأخيرين خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة تصاعد مصادر غير تقليدية لتهديد السلم والأمن الدوليين، وعلى رأسها الإرهاب الدولى والحروب الأهلية, وكلا المصدرين ارتبط بشكل أو بآخر بالدين, فقد برزت التنظيمات الدينية المتشددة التى تتخذ من الدين ستارا لأعمالها الإرهابية مثل داعش وجبهة النصرة وبوكو حرام وغيرها, كما أن كثيرا من الصراعات الأهلية قامت على أسس دينية وطائفية كما هو حال الأزمات فى الدول العربية خاصة بعد ثورات الربيع العربى وفى أوروبا الشرقية وفى إفريقيا, وفى ذات الوقت فشل الفاعلون الدوليون مثل الدول الكبرى والمنظمات الدولية المناط بها حفظ السلم الدولى كمجلس الأمن والمنظمات الإقليمية فى مواجهة الخطرين نتيجة لتضارب المصالح بين الدول الكبرى والازدواجية فى معالجة الصراعات والاعتماد على المواجهة العسكرية بشكل أساسى. كما أنه فى ظل النظام الدولى الجديد تصاعد دور الفاعلين من غير الدول فى التفاعلات الدولية مثل المؤسسات الدينية الكبرى كالأزهر والفاتيكان لما لهما من ثقل دينى كبير، ويتبعهما أكثر من نصف سكان البشرية, وهنا يمكن للأزهر والفاتيكان أن يلعبا دورا إيجابيا فاعلا فى تحقيق السلم والأمن العالميين, ومساعدا لدور المنظمات الدولية كالأمم المتحدة, من خلال تجفيف منابع التطرف والإرهاب عبر تقديم خطاب دينى وسطى معتدل يسحب البساط من تحت أقدام الحركات والتيارات الأصولية المتشددة, كذلك التدخل فى حل الصراعات والأزمات الدولية، سواء بالمساهمة فى إطفاء النيران المشتعلة فى كثير من مناطق العالم, أو التدخل فى مرحلة ما قبل وما بعد اندلاع الصراع بنزع فتيل الأزمات والتدخل الاستباقى لمنع وصولها إلى مرحلة الصدام والاقتتال, وبناء الثقة والتعايش بين أطراف الصراع. ويبرز هذا الدور فى الصراعات والأزمات التى تأخذ طابعا دينيا, ولذلك فإن دعوة شيخ الأزهر لعقد مؤتمر عالمى للسلام بالتعاون مع بابا الفاتيكان يمثل خطوة مهمة فى تفعيل دور المؤسسات الدينية الكبرى فى تحقيق السلم والأمن العالميين. ثالثا: أصبح الدين عاملا أساسيا فى إدارة العلاقات الدولية مع تصاعد الأصوليات الدينية فى العالم, مثل الأصوليات الإسلامية والمسيحية واليهودية والهندوسية, مع تولى الأحزاب الدينية للسلطة فى العالم, وأدى ذلك إلى تديين السياسة، وزيادة مناخ عدم الاستقرار والصدام بين بعض أصحاب الديانات والحضارات المختلفة, والذى عكسته مقولات صدام الحضارات التى روج لها البعض خاصة فى الغرب, وزادت بشكل كبير فى السنوات الأخيرة مع وقوع الأعمال الإرهابية فى بعض الدول الأوروبية, ودفعت البعض إلى محاولة الربط بين الإرهاب والعنف وبين الإسلام, وتصاعد ظاهرة اليمين المتطرف فى الغرب, كما برز فى ظاهرة المرشح الأمريكى للرئاسة دونالد ترامب الذى عكست تصريحاته المناوئة للإسلام والمسلمين ومنع دخولهم الولاياتالمتحدة وفرض الرقابة على أحيائهم, تطورا خطيرا ينذر بزيادة التوتر بين الإسلام والغرب. رابعا: مع تزايد ظاهرة الإلحاد فى العالم تبرز أهمية دور الأزهر والفاتيكان فى إعادة تصحيح العلاقة بين الدين والمجتمع، وبين الدين والسياسة, وبين الدين والعلم وفك التعارض والتصادم بينهم, ورغم أن الأصوليات كان سببا فى هذا التعارض بين هذه المفاهيم والدين, فإن دور المؤسسات الدينية الكبرى المعتدلة هو إعادة وضع الدين فى مكانه الصحيح ووظيفته الحقيقية كمصدر لإسعاد البشرية وتقدمها ورقيها وليس مصدرا للصراع والتناحر, وترشيد السياسة وإضفاء الجانب الأخلاقى والقيمى عليها، وتوجيه الموارد البشرية باتجاه البناء والتنمية والتعمير بدلا من التسلح والحروب, ففى الوقت الذى يواجه فيه العالم تحديات كبرى مثل انتشار الأمراض والتصحر والجوع وملايين اللاجئين والمشردين, نجد أن الدول الكبرى تنفق مئات المليارات من الدولارات على التسلح. ولذلك فإن التقارب بين الأزهر والفاتيكان يمثل ركيزة مهمة فى اتجاه تحقيق السلام العالمى, وإعادة تصويب الخلل القيمى فى التفاعلات الدولية، وإعادة ترتيب الأولويات العالمية, ومن المهم أن يترجم نتاج اللقاء التاريخى بين القيادتين الدينيتين إلى خطوات عملية، وإنشاء مؤسسات مشتركة وفق أجندة محددة, ليس فقط فى مجال حوار الأديان والثقافات, ولكن فى التعامل مع المشكلات الإنسانية المشتركة ووضع الحلول لها. لمزيد من مقالات د . أحمد سيد أحمد