تكتسب التصريحات التى أدلى بها الرئيس عبدالفتاح السيسى حول القضية الفلسطينية فى أسيوط، لدى افتتاحه محطة توليد الكهرباء أهميتها من عدة عناصر، فهى المرة الأولى التى يوجه فيها الرئيس إلى الرأى العام المصرى ليوضح موقف مصر من القضية الفلسطينية، ويؤكد فيها أن مصر لم تنس الشعب الفلسطينى وأنها حاضرة فى المشهد برمته، أما من ناحية التوقيت الذى طرحت فيه هذه التصريحات فهو يحمل دلالات خاصة، فهذا التوقيت أعقب الذكرى الثامنة والستين للنكبة بعد أيام، وحمل هذه التصريحات للشعب الفلسطينى الأمل فى استمرار دعم مصر باعتبارها كبرى الدول العربية فى الوقت الذى تعمل فيه اسرائيل جاهدة على دفعه إلى حافة اليأس، كما أن هذه التصريحات تجئ بعد تأجيل انعقاد المؤتمر الخاص بالمبادرة الفرنسية إلى وقت يحدد فيما بعد، وهو المؤتمر الذى كان سيضم نحو 20 من وزراء الخارجية للبحث فى كيفية استئناف المفاوضات الاسرائيلية والفلسطينية، وتنفيذ حل الدولتين من خلال إقامة الدولة الفلسطينية، وهو المؤتمر الذى حظى بالرفض الاسرائيلى واعتذر جون كيرى وزير الخارجية الأمريكية عن حضوره فى المؤعد المقرر بسبب انشغاله وترتيب موعد آخر. أما من زاوية المكان والمناسبة التى ظهرت فيها هذه التصريحات فهو لايخلو من دلالات أيضا، فالمكان أسيوط فى أعماق الوادى والمناسبة افتتاح محطة لتوليد الكهرباء، وهو ما يعنى أن مصر تسير فى اتجاهين متزامنين أولهما الانخراط فى البناء والتنمية وحل مشكلات الاقتصاد والمواطنين وثانيهما استعادة دور مصر الاقليمى والعربى وتعزيز سياستها الخارجية ودعم القضية والشعب الفلسطيني.ترتكز هذه التصريحات حول استئناف المفاوضات وعملية السلام بين اسرائيل والشعب الفلسطينى على قاعدة حل الدولتين المعترف به إقليميا ودوليا وعربيا، وتوجيه رسالة مزدوجة لكل من اسرائيل والرأى العام والأحزاب فيها وللسلطة الفلسطينية ومختلف الفصائل الفلسطينية، مضمون هذه الرسالة يتلخص فى ضرورة اغتنام اسرائيل الفرصة وتحقيق السلام للمستقبل والأجيال القادمة، أما الفلسطينيون فعليهم البدء فى توحيد الصف وإنهاء الانقسام واستعداد مصر لبذل كل الجهود واستثمار ثقلها فى دعم قضية الشعب الفلسطيني. وقراءة هذه التصريحات قراءة متمعنة تكشف عن أن الرئيس السيسى تجنب إدراجه هذه العناصر ومضمون هذه الرسالة تحت مسمى «مبادرة» رسمية تطرحها مصر ورئيسها، ذلك أن الرئيس يعلم تماما كيف كان مصير المبادرات السابقة والمتعددة التى لايزال بعضها مطروحا حتى الآن، وكيف تعاملت إسرائيل مع هذه المبادرات، ولهذا تجنب الرئيس ارتباط اسمه واسم مصر بمبادرة قد تلقى ذات المصير الذى واجهته المبادرات السابقة وأن يرتبط اسمه بمبادرة لن يكتب لها النجاح، ولا يدرى طبيعة المصير الذى سوف تواجهه، وهو حذر مطلوب ومشروع تقتضيه حسابات سياسية وربما يجنب سوء الفهم من جانب أطراف مختلفة. ومع ذلك فإن تجنب مسمى «المبادرة» ربما لاينفى أنها تضمنت عناصر بمقدورها مجتمعة أن تشكل قوام مبادرة تتعلق بتشخيص الموقف الراهن وتوصية بما يجب اتخاذه، إن للاسرائيليين أو الفلسطينيين، مع دعم مصر السياسى والمعنوي، وبمقدور الأطراف أن تعتبرها كذلك دون أن تتحمل مصر ورئيسها عبء إطلاق مبادرة رسمية قد لايتجاوز مصير سابقاتها وتكتفى بالإشارة إلى المبادرات العالقة للتسوية خاصة المبادرة العربية ومبادرة اللجنة الرباعية والمبادرة الفرنسية. ولاشك فى أن المصلحة الوطنية المصرية والمصلحة الوطنية الفلسطينية تفرضان قدرا كبيرا من الحذر مع ردود الفعل الأولية الاسرائيلية، وألا تؤخذ هذه الردود على محملها الظاهر فقط، فجميعنا يعرف نيتانياهو جيدا، فهو بلاشك يحمل لقب «متخصص فى وأد المبادرات أو قتلها فى مهدها» وتاريخه يشهد بذلك فهو من ناهض وعادى وحرض ضد أوسلو منذ بداية ظهوره على مسرح السياسة الاسرائيلية فى النصف الأول من التسعينيات، هذا العداء والتحريض ضد «أوسلو» أفضى عمليا لاغتيال اسحق رابين أهم مهندسى اتفاقية أوسلو فى 13 سبتمبر عام 1993. لم تر اسرائيل فى أوسلو سوى منفذ لتكثيف الاستيطان وكل المعطيات حول هذا الأمر تشير إلى مضاعفته مقارنة بما قبل أوسلو، أو أن أوسلو لم تنص على الجلاء وإنهاء الاحتلال واستخدمت مفهوم اعادة الانتشار. أما المبادرة العربية فالبند الوحيد الذى حظى بالإعجاب والترحيب هو المتعلق بتطبيع العلاقات مع الدول العربية والاعتراف باسرائيل، دون بقية البنود الخاصة بالانسحاب والجلاء عن الأراضى العربية المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس. أتصور أن اغلاق الباب أمام المناورات الاسرائيلية لاستثمار التصريحات على هذا النحو يتطلب التزاما معلنا ومسبقا بهدف المفاوضات ومرجعيتها المقبولة إقليميا ودوليا وعربيا.