رغم عودة حديث المسئولين فى دول حلف شمال الأطلنطى "الناتو" عن ضرورة وأهمية التنسيق مع روسيا، وخاصة ما بعد انعقاد مجلس "روسيا - الناتو" أبريل الماضي، بعد انقطاع عامين بسبب الأزمة الأوكرانية. إلا أن إقدام الحلف على نشر المزيد من قواته، إلى جانب عزمه بدء تشغيل منظومة الدرع الصاروخية فى بولندا ورومانيا على الحدود الروسية، هى ما تشير إلى عكس ذلك. ففى الوقت الذى أكد فيه ينس ستولتنبيرج الأمين العام للناتو أن الحلف لا يريد دخول "حرب باردة" جديدة أو "مواجهة" مع روسيا، قرر"الناتو" نشر أربع كتائب إضافية من القوات البرية فى جمهوريات البلطيق يصل عددها إلى 4 آلاف عسكري، وتتألف من كتيبتين أمريكية وواحدة ألمانية وأخرى بريطانية، إلى جانب بحث الحلف مع فنلندا والسويد - وهما من غير الأعضاء - إمكانية زيادة عدد المناورات العسكرية فى بحر البلطيق، على أن تبحث الترتيبات اللازمة خلال قمة الحلف المقبلة فى وارسو ( 8-9 يوليو المقبل). جاء ذلك على هامش اجتماع لوزراء الخارجية فى بروكسل (19 - 20 مايو الجاري)، لبحث أساليب تجنب حدوث مخاطر عسكرية محتملة، بعد حادثة تحليق مقاتلتين روسيتين قرب المدمرة الأمريكية "دونالد كوك" منتصف أبريل الماضى خلال مناورة بحرية. وهى الخطوة التصعيدية الثانية من جانب الحلف خلال شهر واحد فقط، بعد إعلان الولاياتالمتحدة بدء تشغيل برنامج الدرع الصاروخية التابع لمنظمة "الناتو" فى أوروبا 12مايو الجارى انطلاقا من قاعدة ديفيسيلو برومانيا، إلى جانب وضع حجر الأساس للقاعدة الثانية 13 مايو فى بولندا، على أن تدخل الخدمة رسميا فى عام 2018. وقال فرانك روز مساعد وزير الخارجية الأمريكى لسياسة الفضاء والدفاع، إن "وحدات الدرع الصاروخية الأمريكية، ستصبح جاهزة للنشر فى أوروبا بحلول يوليو المقبل". وفى المقابل، أعلن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين أن موسكو ستضطر لاتخاذ إجراءات محددة للحد من الخطر الذى يهدد أمن روسيا والناجم عن نشر عناصر الدرع الصاروخية الأمريكية فى شرق أوروبا. وأضاف أن"تصرفات الولاياتالمتحدة هذه تؤدى إلى زعزعة منظومة الأمن الدولية وإطلاق سباق جديد للتسلح". وفى السياق نفسه، ذكرت صحيفة " ترود" مطلع الشهر الجارى أن روسيا قررت تشكيل 3 فرق عسكرية جديدة لحماية حدودها الغربية، مشيرة إلى أن هذا القرار جاء ردا على قرار "الناتو" نشر قوات إضافية فى أوروبا الشرقية. ونقلت الصحيفة عن سيرجى شويجو وزير الدفاع الروسى قوله إن "وزارة الدفاع ستتخذ عددا من الإجراءات بهدف مواجهة تعزيز الناتو قواته بالقرب من الحدود الروسية". وعلقت الصحيفة على تصريحات روز بأن منظومة الدرع الصاروخية لا تستهدف روسيا، بالإشارة إلى ما سبق وأعلنته وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" من أن الجيش الروسى يمكنه يسحق قوات الحلف المرابطة فى جمهوريات البلطيق خلال 3 أيام فقط. وقال الجنرال مارك ميل رئيس هيئة أركان القوات البرية الأمريكية فى شهر أبريل الماضى أمام اللجنة العسكرية بالكونجرس، ردا على سؤال عما إذا كانت هناك قوة عسكرية تتفوق على الجيش الأمريكى؟، إن"قوات التدخل السريع الأمريكية لا تملك القدرة لمواجهة الجيش الروسى فى البلطيق". وأضاف أنه"بموجب تقديرات فإنه يمكن لروسيا أن تجهز خلال عشرة أيام 27 كتيبة مجهزة بمعدات كاملة، يتراوح عددها ما بين 30و50ألف عسكرى، وستكون مزودة بالدبابات ومدفعية وسيارات نقل مدرعة ومساندة جوية". كما أشار ميل إلى أن"القوات الأمريكية والأوروبية لن تستطيع الاعتماد على قواتها الجوية، لأن روسيا تملك منظومات دفاع جوى قوية وقوات جوية متمكنة، وأكثر من هذا، تتفوق المدفعية الروسية بنوعيتها على الأمريكية فى مداها". ومن جانبها، تناولت صحيفة "موسكوفسكى كومسوموليتس" تنبؤات الجنرال البريطانى المتقاعد ريتشارد شيريف بوقوع حرب نووية مع روسيا بسبب دول البلطيق. إلا أنه ورغم ذلك فإن اعتماد وصول الجانبين إلى ترجيح فرضية "المواجهة" ما بينهما ما زالت تبدو بعيدة، لاسيما فى ظل إمكانية فهم وتفسير تحركات كلاهما الأخيرة. فمن جانبه، لا يريد"الناتو" الاستمرار فى الظهور بموقف "الضعيف" أمام ما وضح عليه من سياسة "الحسم" الروسية مؤخرا، وخاصة منذ ضم موسكو شبه جزيرة القرم، ومن ثم ضرورة الاستمرار فى سياسة الردع والاحتواء المتبعة من جانب الحلف منذ نهاية الحرب الباردة دون تغيير. وفى المقابل، فإن روسيا كذلك لا تريد أن تصبح خطواتها ك"رد فعل" فقط، أو بمعنى آخر لعب دور "المدافع" أمام ما تصفه ب"تهديدات" لأمنها من جانب الحلف، بل ضرورة اتخاذ وضعية الاستعداد التام للقيام بالهجوم أولا، إذا ما ثبتت حالة التهديد بالفعل. وعليه فإن استمرار غياب الثقة ما بين الطرفين هو ما قد يؤشر إلى استمرار التحرشات المتبادلة ما بينهما، فى ظل إصرار دول الحلف، وبالأخص الولاياتالمتحدة التأكيد على استمرارها كقوة عظمى وحيدة فى عالم اليوم، فى الوقت الذى تصر فيه روسيا على إثبات عكس ذلك، وبدء التحول فى النظام العالمي، وهو نفسه ما عبر عنه ألكسندر جروشكو مندوب موسكو لدى "الناتو" بالتأكيد على عدم وجود"أجندة إيجابية" بين روسيا والحلف فى الوقت الحالي.