قرأت باهتمام شديد رسالة المفاجأة المذهلة للأب الذي رحل اثنان من أبنائه عن الحياة وتنتابه هواجس بأنه قد يفقد الثالث, ثم رسالة زهرة البنفسج للأم الأرملة التي ماتت ابنتها الكبري وأراد خطيبها الزواج من أختها الصغري. لكن الفحوص الطبية أثبتت أنها تعاني ضعف عضلة القلب, ولن تستطيع الحمل والإنجاب والحياة الطبيعية مع زوجها, ولا تدري هذه الأم الصابرة, هل تبلغ خطيبها بالحقيقة أم ماذا تفعل؟ ووجدتني أمسك بالقلم وأكتب إليك بتجربتي المؤلمة بعد عامين من الصمت والانعزال عن الآخرين, فأنا مهندس في الخمسين من عمري, نشأت في قرية بإحدي محافظات الوجه البحري لأب يعمل محاسبا بإحدي الهيئات الحكومية, وأم ربة بيت وخمسة أخوة ثلاثة ذكور وبنتان, وعشنا حياة عادية, وتعلمت منذ صغري الاعتماد علي نفسي وعدم اللجوء إلي الدروس الخصوصية, وحصلت علي الثانوية العامة بمجموع أهلني للالتحاق بكلية الهندسة, ومضت سنوات الدراسة سريعا, وجذبتني إحدي زميلاتي بهدوئها وبساطتها ففاتحتها في الارتباط بها, فسكتت برهة, ثم قالت إنها سوف تعرض طلبي علي أسرتها, وفي اليوم التالي أبلغتني أن والديها حددا لي موعدا لزيارتهم, وفي الموعد المقرر كنت في ضيافتهم بصحبة والدي, واستقبلونا بترحاب شديد, وعرفت أن لفتاتي أختا متزوجة, وأن أباها موظف علي المعاش, وتبادلنا الهواتف وكتبت عنواني علي ورقة صغيرة سلمتها له لسؤال من يشاءون عنا, وانصرفنا وأنا أشعر براحة شديدة وكذلك أبي الذي وصفهم بقوله ناس طيبون. وبعد أسبوع تقريبا طلبني وأبلغني بموافقته, وتزوجنا في حفل بسيط, وأقمنا في شقة بمنزل العائلة مع وعد بالبحث عن شقة مناسبة في القاهرة عندما تتحسن الأحوال.. وعملت في شركة مقاولات كبري, ونلت ثقة رؤسائي ورزقنا الله بابنتي الكبري بعد عام من الزواج, ثم جاءني عقد عمل في دولة خليجية, فحصلت علي إجازة بدون مرتب وسافرت بمفردي, وبعد ثلاثة أشهر استأجرت مسكنا, وجاءتني زوجتي وابنتي.. وبدأنا هناك مرحلة جديدة من الحياة, فكنت أذهب في الصباح الباكر إلي العمل وأظل أكدح طوال اليوم, وأعود في المساء فألتمس بعض الراحة والفضفضة مع زوجتي, ثم أخلد إلي النوم بضع ساعات قبل أن أصحو لمواصلة رحلة الكفاح. ومر العام الأول وحلت الإجازة الصيفية فعدنا إلي مصر في زيارة لمدة أسبوعين قضيت منهما أسبوعا مع أسرتي وأسبوعا مع أسرة زوجتي, وعشنا أياما سعيدة بين الأهل والأصدقاء, وسافرنا من جديد.. وبعد شهر تقريبا, وبينما كنت جالسا مع زوجتي نتابع أحد البرامج التليفزيونية, دق جرس الهاتف فرفعت السماعة, فإذا به حماي الذي أبلغني وهو يبكي بحرارة بأن حماتي ماتت فجأة.. فرددت عليه وقد تحشرجت الكلمة في فمي ماتت؟.. وعلمت زوجتي بالخبر الذي نزل عليها كالصاعقة, ولم ننم ليلتها وظللنا نرتجف, ونحاول أن نلملم قوانا, ونسيطر علي أعصابنا بقراءة القرآن الكريم حتي حل الصباح, فذهبت إلي صاحب الشركة واستأذنته في اجازة لمدة يومين, وعدنا إلي القاهرة حيث حضرنا مراسم تشييع الجنازة وتقبل العزاء, وسألت حماي عما إذا كانت لديه الرغبة في أداء العمرة بصحبتنا فوافق واستخرجت التأشيرات اللازمة عن طريق إحدي شركات السياحة.. وزرنا البيت الحرام والمسجد النبوي, ووجدتها فرصة للحديث معه للاستقرار معنا ولو بضعة أشهر, فأومأ برأسه بما يعني الموافقة, ولكني لاحظت عليه الصمت التام علي غير عادته, ولم تفلح محاولات ابنته لإخراجه من دائرة الأحزان التي أصبح أسيرها, وذات يوم كنت أجلس معه في الصالة, وتركته دقائق ودخلت المطبخ لإعداد الشاي, وعندما عدت إليه وجدته نائما, فحاولت إيقاظه فإذا به يسقط علي الأرض.. وأسرعت إلي الهاتف واتصلت بالمستشفي المركزي بالبلد الذي نسكن فيه, وجاءنا الطبيب علي عجل ووقع الكشف الطبي عليه ثم قال: البقاء للهفانفجرت زوجتي في بكاء مرير ونحيب بصوت عال وهي لاتبالي بما تقول, وأحس الجيران بأن شيئا ما قد حدث عندنا فاتصلوا ببعضهم وتجمع عدد كبير منهم, وانتحت السيدات مع زوجتي جانبا, بينما ساعدني الرجال في استخراج تصريح الدفن. وعلم صاحب العمل بما حدث فأعطاني إجازة أسبوعا كاملا لكيلا أترك زوجتي وحدها طوال النهار وحاولت جاهدا أن أخفف عنها أحزانها, لكنها تحولت إلي إنسانة أخري لا تعرف غير لغة الصمت والوجوم, وأجدها دائما شاردة الذهن, وبعد أن كانت تنتظر الإجازة الصيفية بلهفة وشوق, قررت عدم العودة إلي مصر نهائيا, واكتفت بالحديث مع أختها عبر الهاتف من آن لآخر. ورزقنا الله بولد وبنت ثانية, ومرت سنوات الغربة متشابهة.. عمل متواصل طوال العام.. وأجازة قصيرة أحضر فيها إلي مصر بمفردي قاصدا زيارة عائلتي والاطمئنان علي أبي وأمي وأخوتي.. وقد اشتريت الشقة التمليك التي طالما حلمنا بها في القاهرة, وقطعة أرض في القرية التي نشأت فيها لكي أقيم عليها مشروعا خاصا بعد انتهاء عقدي في البلد الذي أعمل به, وظللت أدعو الله أن يلين قلب زوجتي وأن يلهمها الصبر وتعود كما كانت فيلتئم الشمل من جديد, ولا تكون هي في واد, وأختها في واد آخر, وعائلتي في واد ثالث.. والتحقت ابنتي الكبري بكلية الطب ووصل شقيقها الذي يليها إلي الثانوية العامة, ثم أختها الصغري إلي المرحلة الإعدادية. وما أن بدأت في اتمام مشروعي الذي وضعت فيه عائد شقاء السنين حتي انقلبت حياتنا رأسا علي عقب وكثر كلام الناس عن الثروة الطائلة التي أملكها,وحدثني أبي عن أنني أخطأت في إقامة المشروع في قرية صغيرة, حيث يكثر الحسد ولا يسلم أحد من نظرة الناس!.. ولم أهتم بكلامه ومضيت في بناء ما اعتزمته بإصرار, لكن المصائب لا تأتي فرادي كما يقولون.. فلقد مات شقيقي الأصغر في حادث سيارة وترك أربعة أولاد بالمرحلتين الابتدائية والإعدادية, وهم في حاجة إلي من يرعاهم, وصاروا هم شغلي الشاغل.. ولم تمر أشهر حتي توفي أبي بعد مرض قصير ولم أجد بدا من العودة إلي مصر.. لكن زوجتي لم يلن لها جانب وظلت علي موقفها الرافض تماما لفكرة استقالتي من العمل في الخارج مادام العقد مستمرا مع الشركة التي أعمل بها.. وتري أن اعتكافها في بيتها بعيدا عن الاحتكاك بالآخرين هو الصواب بعينه!.. وأرسلت ابنتي الكبري إلي القاهرة مع بدء العام الدراسي لتعيش مع خالتها. وفي أحد أيام العطلات الأسبوعية خرجنا لقضاء بعض الوقت في حديقة عامة, واستقللت السيارة وإلي جواري زوجتي, وفي المقعد الخلفي الولد والبنت الصغري, وكان الطريق مفتوحا, وفجأة انفجر إطار السيارة فطارت في الهواء لمسافة طويلة ثم سقطت علي الأرض وجاءتنا سيارة الإسعاف ونقلونا إلي المستشفي وأنا شبه غائب عن الوعي, وكل ما أذكره عما حدث وقتها مجرد خيالات, وعندما افقت تلفت حولي فلم أجد زوجتي وابنائي, وافهموني أنهم في العناية المركزة, وعرفت أنني أصبت بكسور في المفاصل, وتهتك في أماكن متفرقة من جسدي, وأنني سوف أخضع لعدة جراحات, وجاءني صاحب العمل, وحاول تهدئتي, وكذلك فعل زملائي وجيراني والححت علي الأطباء أن اطمئن علي أسرتي فوعدوني بذلك بعد أن تستقر حالتي, ومضت ثلاثة أيام طويلة كئيبة, ثم نقلوني بعدها علي كرسي متحرك إلي غرفة زوجتي فوجدتها راقدة فوق السرير لا تعي شيئا عما يدور حولها, فصرخت بصوت عال وأنا أبكي بحرقة..وألم إيه اللي حصل؟ فين, العيال؟ فأعادوني سريعا إلي غرفتي واعطوني حقنة مهدئة, ثم زارني طبيب نفسي أخذ يحدثني عن القضاء والقدر, وأننا جميعا ضيوف علي هذه الحياة, وأن المؤمن يجب أن يعي أننا وديعة الله في الأرض وأنه سبحانه وتعالي يسترد وديعته حين يشاء. هنا عرفت أن ابني رحلا عن الحياة وهما في عمر الزهور, وأنهم دفنوهما في البلد الذي نعمل فيه دون أن أشارك في إلقاء نظرة الوداع عليهما أما زوجتي التي صارت أشلاء تدب فيها الحياة وأصبحت قعيدة تماما, فلم تتحمل الخبر عندما علمت به وزادت حزنا علي حزنها ولم يجد لها الأطباء سبيلا إلا الأدوية المهدئة.. وطالت فترة علاجنا في المستشفي لمدة تقترب من ثلاثة أشهر وعدنا إلي بيتنا نجر أحزاننا ولك أن تتخيل حالنا,وحال ابنتنا في مصر وحال العائلة بما نحن فيه, ومن كثرة الاتصالات التي تؤلب المواجع غيرت أرقام الهواتف, ولم أعد أرد علي أحد وأغلقنا بابنا علي أنفسنا نشكو همنا إلي الله داعين أن يجد لنا مخرجا مما نحن فيه. وللحق فإن صاحب العمل وهو رجل شهم عرض علي أن أعمل في المواعيد التي أحددها, وفي الموقع الذي أراه لكي أكون قريبا من زوجتي فأباشر تمريضها بنفسي فشكرته, ورحت أسترجع رحلتي مع الحياة, فلقد كان الطبيعي والمنطقي أن أنهي عملي في الخارج, وأعود إلي بلدي كما تمنيت دائما حيث كانت زوجتي دائما هي التي ترفض ذلك مادام عقدي مستمرا مع صاحب العمل, ولكن وجدتني بعد ما حدث لنا أؤيدها تماما في البقاء بالخارج, بل والانعزال عن الآخرين مفسرا ما حدث لنا بأنه الحسد, وبأنني أخطأت حين اشتريت الشقة الفارهة في القاهرة, وأقمت مشروعي الكبير في مسقط رأسي! وتذكرت نصيحة والدي التي لم أعمل بها. وبالفعل نفذت قراري.. وها نحن وقد مر عامان ثقيلان مازلنا نتمسك بموقفنا, وأنوي ضم أبنتنا إلينا بعد أن تنهي دراستها كما أنني أطمئن علي أبناء شقيقي الراحل وأتابع احوالهم مع إخوتي, وأرسل إليهم ما يريدونه من أموال, فهل تراني علي حق في قراري؟ وهل من الممكن أن تستقيم حياتنا بعد الجراح التي آلمت بنا!. وأقول لكاتب هذه الرسالة:بلاشك فإن القرار الخطير الذي اتخذته بالتقوقع علي نفسك, وعدم التواصل مع الآخرين, وأن تظل في الخارج بعيدا عن أهلك ووطنك إلي أن يتم إنهاء عقدك هو قرار خاطئ بكل تأكيد, فليس معني أن يتعرض الإنسان لمحن مؤلمة في حياته هو أن يحكم الخناق علي نفسه ويعذبها بالوحدة, بإعتبار أن ما حدث له نتيجة الحسد, صحيح أن الحسد موجود, وعلينا أن نستعيذ بالله من شرور الحاسدين, لكن الأصل في المحن والمصائب هو أنها من قدر الله, كما أن الأعمار بيده عز وجل, ألم تقرأ قوله تعالي مخاطبا رسوله الكريم إنك ميت, وإنهم ميتون ثم قوله لكل أجل كتاب, فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون؟ إنني أعلم تماما أنه ليس باستطاعتك أن تبدل إحساسك بمحض إرادتك, ولكني أري أنه بمقدورك أن تغير أفعالك, فإذا تغيرت الأفعال تبدلت الأحاسيس بصورة تلقائية, بمعني أنه يتعين عليك أن تخرج من العزلة التي فرضتها علي نفسك, فتعود الي زيارة الأحباب والأصدقاء, وأن تدرك أنه لا راد لحكم الله, فإذا سلمت بهذه الحقيقة سوف يرتاح ضميرك, وتهدأ نفسك تدريجيا. ولست في حاجة ياسيدي الي أن أذكرك بأن الله يبتلينا بالمحن لاختبار مدي رضانا وقبولنا بما قسمه لنا, وأن من لا يصبر علي البلاء لا يرضي بقضاء الله وقدره, وهذه ليست شيمتك, فأنت رجل مؤمن تعرف حق ربك, وحق أهلك, ولذلك ينبغي عليك أن تصبر وتجاهد فلا يعرف اليأس ولا التبرم سبيلا اليك, فكما كنت في وقت الرخاء شاكرا متواضعا لاتعرف التجبر والاستعلاء بفضل ايمانك بالله, يجب أن يكون هذا هو منهجك في وقت الشدة, فتستغفر الله وترضي بحكمه وتواصل علاقاتك بمن حولك, فلا يعرف أحد ما تخبئه له الأقدار, وعليه دائما أن يحمد الله في كل الظروف والأحوال. ودعني أذكرك بقول الجاحظ قليل الصبر يشعر بالألم أضعاف ما يشعر به الصابر المحتسب. وكما يقول الشاعر: اصبر ففي الصبر عقبي لو علمت بها سجدت شكرا لذي الأفضال والنعم واعلم بأنك إن لم تصطبر كرما صبرت حتما علي ما خط بالقلم فلا تلق بالا ياسيدي بمن تتصور أنهم حسدوك, فلا هم ولا غيرهم يملكون لك ضرا أو نفعا, فمن وجد الله حاز الدنيا وما فيها, ومن ابتعد عنه فقد كل شيء, ولو أنك صدقت مع نفسك وتسلحت بالارادة القوية, سوف تصفو نفسك, وتواصل سعيك في الحياة, فالعاجز حقا هو من ينشغل بالماضي ويظل أسيرا له, ولو أحسن التفكير لأدرك أنه لاطائل من إعادة العجلة الي الوراء. وكذلك الحال بالنسبة لك, فلو أنك ظللت منغلقا علي نفسك لن تكسب شيئا ولكن سوف تخسر الكثير, فالحزن لا يرد الغائب, والقلق لا يحقق النجاح, والنفس المطمئنة مع القلب المطمئن هما جناحا الرضا والقناعة ومن ثم الاطمئنان وهدوء البال. فكن قويا ياسيدي في مواجهة أحزانك ولا تستسلم لها, فاليأس فيه طعم الموت, وفي الشجاعة معني الحياة كما يقول علي الجارم.. واعلم أن الزمن كفيل بمداواة الجراح, فالمهمة التي تنتظرك أكبر من الاستسلام للحزن واليأس.. وعلي زوجتك أن تدرك ذلك, وأن تعرف أنه آن الأوان لأن تعودا الي مصر وتجمعا شمل عائلتكما, فينشأ أبناء شقيقك الراحل في كنفك, ومع ابنتك الكبري.. اسأل الله أن يزيل عنكما الأحزان, وأن يكتب لكما السعادة وراحة البال في قادم الأيام, وهو وحده المستعان.