يعيش النظام السوداني عددا من الأزمات الخطيرة مدير مركز الدراسات السودانية الخرطوم التي يمكن أن تهدد وجود أي نظام سياسي طبيعي.ولكن النظام السوداني قدم نموذجا خارج نظريات العلوم السياسية في الاستقرار.فقد عكس الفرضيات تماما,إذ تقاس كفاءة أي نظام سياسي بقدرته علي إدارة الأزمات الناشبة في البلد. وهنا يقدم النظام نظاما فريدا في غرابته, ومع ذلك نفسه ناجحا وفق معاييره الخاصة للنجاح أي الاستمرار في السلطة.فهو يعمل وينشط وسط الأزمات سواء كانت حقيقية أو مفتعلة,ويستطيع فرض سياسات يصعب تطبيقها في الظروف العادية.ومن أهم آليات التحرك داخل الأزمة,الحديث عن ظروف استثنائية تستوجب الوحدة الوطنية,وتأجيل أي خلافات حزبية أو سياسية,وهو الشعار المتداول في مثل هذه الظروف: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. خاصة أن الحديث عن استهداف السودان, وعن المؤامرات الغربية والصهيونية,وعن الإسلاموفوبيا;لا يتوقف في أجهزة الإعلام الرسمية.وهكذا يتمكن النظام السوداني في ظروف الأزمة من تعبئة وحشد الجماهير العادية,واسكات المعارضين أو علي الأقل احراجهم والمزايدة عليهم وطنيا السؤال الذي لا يتوقف الناس عن ترديده وطرحه باستمرار هذه الأيام:لماذا تأجل الربيع السوداني؟ أو هل من الممكن حدوث ربيع سوداني؟وهناك بعض السودانيين تستفزهم مثل هذه الاسئلة,ويردون بحسم وغضب: الشعب السوداني معلم في الانتفاضات والثورات الشعبية إن الربيع السوداني قادم لا ريب فيه.بينما يعلق النظام باستخفاف بأن الربيع السوداني قد انطلق في30 يونيو1989(يقصد الانقلاب العسكري).ويبرر هذا الرأي بأن الربيع العربي جاء باصحاب التوجهات الإسلامية الي السلطة أو كاغلبيات برلمانية في كل بلدان الربيع العربي,لأنها تري أن الإسلام هو الحل.ولكن للمفارقة,تتبرأ كل الحركات الإسلامية العربية خاصة التونسية والمصرية من أي نسب أو صلة بالتجربة الإسلامية السودانية مفضلين أن يشبهوا بالتجربة التركية أو الماليزية.ولهم الحق في ذلك,لأن سجل النظام السوداني في الديمقراطية وحقوق الانسان,مخجل لنا كسودانيين ومحرج لهم كحركات إسلامية تسعي لنفي أي تناقض بين الإسلام والديمقراطية. لم يكن من هموم اصحاب المشروع الحضاري الإسلامي في السودان,حقيقة, إعادة مجد الدولة الإسلامية المندثر,ولا العودة لمجتمع المدينة,او بعث الخلافة الراشدة;ولكنهم انشغلوا بتحويل الدين الإسلامي المعاصر الي تكييف برجماتي أي عملي-نفعي يسهل عليهم,ويشرعن اساليبهم الميكافيلية. ومن هنا انطلق النظام في بناء ورعاية ثلاث مؤسسات رأي في قوتها وفعاليتها- حسب مستوي تطور الاقتصادي الإجتماعي للسودان;ضمانة لاستمراره في السلطة.وقد تمت الهيمنة والسيطرة علي السودان من خلال ثالوث: الامنوقراطية, ثم السوق فقد قام بعملية خصخصة هي في حقيقتها بيع القطاع العام لمنتسبي الحركة الإسلامية وبعض المسئولين الحكوميين.كما سمح التسيب في المال العام بظهور اثرياء جدد تحكموا في اقتصاد البلاد.ومع عودة القبلية تم تصعيد نخب جديدة لملء مواقع سياسية وإدارية.وقد استخدم النظام هذه الوسائل بنجاح من أجل اضعاف المعارضة باحداث انقسامات مؤثرة في داخلها واستطاع أن يكسب الاجنحة المنشقة ويشركها في الحكم تحت مسمي:حكومة برنامج الوحدة الوطنية.وقد استغل النظام هذه التحالفات الاصطناعية في الترويج لقومية الحكومة العريضة واتساع المشاركة. تعود استمرارية النظام السوداني لضعف معارضته وليس لقوته الذاتية.فقد نجح في وضع المعارضة الشمالية في حالة الدفاع,وانتزع منها المبادرة خاصة حين يلجأ لخلق الأزمات.وقد روج النظام لفكرة التماهي بين الوطن/السودان مع النظام الحالي,أي أن سقوط ونهاية النظام تعني بالضرورة انهيار السودان أو صوملته(نسبة للحالة الصومالية في التفتت).ونجح النظام في بيع الفكرة لزعيم أكبر حزب سياسي سوداني وهو السيد الصادق المهدي,وبالتالي استطاع تحييده وصار(المهدي)في منزلة بين المنزلتين:ليس بالمعارض ولا المناصر.وهذه وضعية يستفيد منها النظام,لأن حزب الأمة كان مع المعارضة وهذا خصم عليها. كما أن(المهدي)لا يتوقف عن الهجوم علي المعارضة لاثبات حياده. أما القطب الآخر في المعارضة, وهو الحزب الاتحادي الديمقراطي(طائفة الختمية),فيتميز بأن زعيمه السيد محمد عثمان الميرغني لا يميل للتنظير والتفكير الطويل.فقد قرر سريعا اللحاق بالتشكيل الحكومي خشية أن يغير حزب المؤتمر الوطني الحاكم رأيه في مشاركتهم.والحزب الاتحادي الديمقراطي مشارك في الحكومة ولكن ليس في السلطة,إذ ليس له أي دور في اتخاذ القرار ولا في تنفيذه بل في حشد التأييد له بعد صدوره. عول الديمقراطيون السودانيون كثيرا علي قيام تحالف قوي الاجماع الوطني المعارض;ولكنه سرعان ما بدأ في تكرار اخطاء طيب الذكر- التجمع الوطني الديمقراطي.فالتحالف مشغول باصدار بيانات الشجب والادانة وكأننا في عام.1990هذا وقد فشل التحالف في الانتقال من مرحلة اللفظية الي مرحلة الفعل وتحريك الشارع.ويسخر النظام من التحالف ويسميها معارضة ميكروفونات عجزت عن تحريك مظاهرة واحدة.وبمثل هذا الاستخفاف يسيء النظام التقدير ويساعد في تحويل الربيع السوداني الي صيف ساخن ولن تكون الانتفاضة الشعبية سلمية بل كفاح مسلح ودموي.وقد بدأت بوادر هذا الخيار تلوح في الافق مع معركة(هجليج)الاخيرة. فجر النظام السوداني هذه الايام أكبر وأخطر أزماته علي الإطلاق,ولكنها قد تكون الإخيرة سلبا أم ايجابا.فالنظام قد الغي عمليا- وبعد التضحية بالجنوب- اتفاقية السلام الشامل والتي يعتبرها نهاية الحروب.ولكن الاجواء تبشر بعودة الي اغسطس1955 تاريخ أول صدام عسكري كبير بين الشمال والجنوب.فالنظام يحارب هذه الايام في جبهة تمتد الي الفين ومائتين وخمسين كيلو مترا, من حدود تشاد وافريقيا الوسطي حتي النيل الازرق. وهي حرب عصابات لها شروطها واكراهاتها,وحتي فرنسا وامريكا لم تكسبا مثل هذه الحرب في فيتنام.وتعيش البلاد أزمة اقتصادية غير مسبوقة حتي لو تم الاتفاق حول النفط.وهناك تدهور واضح في مستوي الحياة المعيشية,وتوجد مناطق تقف علي حافة المجاعة.يضاف الي ذلك,أزمة العلاقات الخارجية,حيث تمكنت دولة الجنوب الناشئة ان تتفوق علي النظام السوداني دبلوماسيا وتعزله,بسبب المواجهات مع الاتحاد الافريقي ومجلس الأمن,ورفضه الجلوس علي مائدة المفاوضات.ولا ادري هل ستكون نهاية الادارة بالازمات سعيدة ليواصل النظام السوداني اللعب بالبيضة والحجر؟