هنا. نجد أنفسنا أمام دراسة ضافية عن شخصية «جحا» ضمَّها كتاب «جحا العربي.. شخصيته وفلسفته في الحياة والتعبير» للباحث الراحل عاشق التراث الشعبي وأحد رواده البارزين الدكتور «محمد رجب النجار». حلّق فيه خلف «اللغز الجُحوي»، والمأثور فيه يبدو أنه كنز لا ينفد، لا تنتهي غرائبه ونوادره، التي تمنحنا بعض الضحك والدعابة والسخرية، بالحماقات، والحكم، والتلاعب بالألفاظ، أو الخطأ في القياس، إذا تأملناها نجدها وسيلة حيوية للدفاع عن الذات العامة، ورد اعتبار الذات الفردية، وهو دور أقرب لفن «الكاريكاتير» المعاصر في حياتنا. ويذهب الدكتور النجار إلى أنه على الرغم من أصالة شخصية جحا في أدبنا الشعبي من حيث الواقع التاريخي، فإن المأثور الجحوى لم يكن كله من تأليف أو إبداع جحا ( أبى الغصن دجين بن ثابت الفزاري المتوفى سنة 160 للهجرة والمعروف بجحا)، بل كان تعبيرا جمعيا من إبداع الشعب العربي، ترسيبا للتجربة، ونزوعا إلى السمر في آن معا. مؤكدا أن جحا شخصية حقيقية ذات واقع تاريخي، ونسبه ينتهي إلى قبيلة فزارة العربية، وولد في العقد السادس من القرن الأول للهجرة، وقضى الشطر الأكبر من حياته في الكوفة. وعاش أواخر الدولة الأموية، واشتهر بين معاصريه بروحه المرحة، وحسّه الفكاهي حتى ضُرب به المثل، وورد في مخطوط «نثر الدُرر» ل «الآبي» المتوفى سنة 423ه أن الجاحظ حكى «إن اسمه «نوح»، وكنيته «أبو الغصن»، وأنه أربى على المائة. وبشهادة بعض معاصريه كان يتمتع بذكاء وفطنة ودهاء، وإن ادعى غير ذلك، حيث اتخذ من الغباء أو التغابي، أو الحمق والتحامق أسلوبا في الحياة. وكان مؤمنا بفلسفة الضحك ودوره في التغلب على صعاب الحياة، وموهوبا يجيد قول الفكاهة بألوانها المختلفة، قادرا على السخرية حتى من نفسه، وحاضر البديهة، سريع الخاطر، حسن التخلص من المأزق، وقادر على قلب المأساة إلى ملهاة بأفضل تجليات السخرية، وذكر «الآبي»: «حدث أن مات له صديق فظل «جحا» يبكي خلف جنازته، ويقول: «من لي بصديق يحلف إذا كذبت، ويحثني على شرب الخمر إذا تبت، ويُعطى عني في الفسوق إذا أفلست؟! لا ضيعني الله بعدك، ولا حرمني أجرك!«. وإذا كان الناس جهلوا أصوله العربية، فإنهم لم ينسوا نوادره، وسرعان ما انتقلوا به من عالم الواقع إلى عالم الخيال حيث أضافوا إليه من النوادر ما شاء لهم الخيال الشعبي على مر العصور. ويحدثنا الكاتب عن جحا التركي وجحا المصري، فالتركي «نصر الدين خوجة» هو البطل الأشهر لقصص الذكاء والغباء عند الأتراك بغير منازع، وإليه تُنسب نوادرهم وحكاياتهم المرحة، وبهذا الانتساب تكتسب أهميتها البالغة لديهم، ويرددون الكثير من نوادره وحكاياته، ويستعينون بها في التعبير عن حياتهم العملية وما تنطوي عليه من معاناة يومية، ويتمثلونها في كثير من مواقفهم. ونجد أن جحا التركي لم يسلم بدوره من الخلط، فرأي يراه متعلما عاش في زمن «هارون الرشيد»، وهو رأى متأثر بالرمز العربي تاريخيا، والرأي الثاني يراه معاصرا للسلطان علاء الدين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر للميلاد، ما يؤكد أن الرمز العربي سابق للتركي، والرمز التركي استقطب كثيرا من نوادر سلفه العربي التي وصلت إليه عبر وسيط فارسي. وأجمع الدارسون على أن النوادر المنسوبة لجحا التركى ليس هو قائلها كلها، بل أضيف إليها ما وصل الأتراك من نوادر فارسية أو عربية، وتقطع المصادر العربية القديمة بأن النوادر المنسوبة لجحا الأتراك عربية الأصل دون شك. فالعلاقة إذن بين النموذجين أخذ وعطاء مستمران كان خلالها «جحا الفزاري» بنوادره التي تزخر بها كتب التراث، النموذج الذى احتذاه الترك في انتخاب جحاهم نصر الدين خوجة، فنسجوا على منواله وأضافوا إليه تجربة الأمة التركية، وحكمتها الشعبية حتى صار نصر الدين خوجة النموذج الأخير للنمط الجحوى الذائع في الثقافة العربية الإسلامية الشعبية بوجه عام. وعن جحا المصرى يقول الدكتور رجب النجار:«لعل النموذج الجحوي لم يلق من الذيوع والانتشار في العالم العربي مثلما لقي في البيئة المصرية، بالرغم من أنه شخصية غير مصرية وإنما عرفته البيئة المصرية رمزا فنيا منقولا إليها، له أسلوب فني مميز في الحياة والتعبير، في إطار فنى أثير لدى الشخصية المصرية والمزاج المصري، إطار التندر والفكاهة اللاذعة والتهكم ضد قوى القهر والطغيان، وضد الأنماط البشرية السلبية اجتماعيا وإنسانيا فصار نموذجا فنيا وشعبيا موصولا بالحياة، وعلما من أعلام الفكاهة الساخرة، ونمطا من الإبداع الشعبي في مصر. وارتبطت الشخصية الجُحوية بالعصور التي اشتد فيها الصراع بين قوميتين، أو أكثر، أو التي تتحول فيها نظم الحكم من دولة أخذت في الأفول إلى دولة أخرى تستكمل مقومات السلطان والمكانة، حيث تبرز في مثل هذه الظروف تناقضات النظم الاجتماعية والعلاقات الإنسانية والمواقف النفسية، وفى ضوء هذه المتغيرات، وما تفرزه من تناقضات خاصة في عصور الكبت السياسي والقهر العسكري والقمع الفكري ينمو الباعث الآخر على انتخاب الرمز الجُحوي، وهو محاولة الشعب التغلب على تلك التناقضات من ناحية، أو مقاومة الانحراف والتسلط من ناحية أخرى. ولهذا لم يكن عبثا أن يربط الوجدان الشعبي بين نموذجه الجحوى وتيارات الحياة العامة السياسية والاجتماعية، وأن يقول رأيه على لسانه فيما يدور حوله من أحداث. واستخدام الحيلة والذكاء كان وسيلة ناجحة ومثيرة من وسائل النموذج الجحوي في تنفيذ الأوامر السلطانية الحمقاء، هي ثقافة الفهلوة بجانب ثقافة الخوف والنفاق على نحو ما يأتي من نوادر. ويقال إن جحا يوما طبخ أوزة وحملها كهدية إلى «تيمور لنك» وفى الطريق تغلب عليه الجوع فأكل منها فخذا، ولما رأى السلطان أنها ناقصة، قال لجحا: وأين رجلها؟ فقال جحا: إن جميع أوز المدينة برجل واحدة، وهذا تلميح إلى عرج «تيمور لنك» وإذا لم تكن تصدقنى فانظر إلى الأوز على ضفة البحيرة أمامك، وكان الأوز عندئذ واقفا فى الشمس رافعا إحدى رجليه ومخبئا رأسه في صدره كعادته، فتظاهر السلطان بالاقتناع، وأمر الموسيقى السلطانية خفية بأن تقترب من البحيرة وتضرب ضربا شديدا، فما هي إلا برهة حتى صدحت الآلات الموسيقية ودقت الطبول فجفل الأوز من الضوضاء وركض يمينا وشمالا مذعورا فالتفت تيمور إلى جحا وقال له: كيف تكذب، أما ترى أن الأوز يمشي على رجلين..؟ فقال جحا: لكنك يا مولاي نسيت أن الرعب يأتي بالعجائب، فلو أخافوك مثلما أخافوه لجريت على الأربع! وتشير الدراسة إلى أن النادرة الجحوية تؤكد أن تحقيق العدالة وسيادة القانون في مجتمع ما رهن بطبيعة النظام السياسي ونزاهة القائمين عليه، فإذا كنا في عصور الاستبداد، كان القانون في إجازة، وكانت كلمة الحاكم المستبد هي القانون، وكانت مصلحته الفردية فوق المصلحة القومية، وحينئذ يفتقر الناس إلى المقاييس والمعايير والضوابط التي تستقيم بها حياتهم ومجتمعهم وتصبح حياتهم جحيما لا يطاق. وتؤكد كتب النوادر العربية بوضوح أن الشعب العربي أتقن فن الكاريكاتير مما أدرج الكثير منها في نطاق النقد السياسي والاجتماعي، خاصة نقد الأنماط الاجتماعية كالبخيل، والطفيلي، والمادي، والفضولي، والمرائي، والثقيل، والمغرور.. الخ، إلى جانب ما تحدثه من تسلية وتسرية، ما حقق لها الشيوع. وتبدو العلاقة بين جحا والأمثال الشعبية وثيقة، فهو أحد الشخصيات أو النماذج الرئيسية في أمثالنا الشعبية، حيث ترتبط الأمثال هنا بفلسفة النمط الجُحوي أساسا، بكل ما يعبر عنه من تناقضات مجتمعه الفكرية والاجتماعية والنفسية والثقافية والسياسية والسلوكية.. الخ. فالقالب العام للمثل الشعبي يوافق القالب العام للحكاية الشعبية والجحوية خاصة، باعتبار أن أغلب الأمثال تحوى وراءها قصة أو حكاية قصيرة أشبه بالنادرة، ومن ثم كانت نوادره معينا خصبا لكثير من الأمثال التي تجمع بين حكمة المثل العملية والأسلوب الجحوي الساخر في التعبير.