سألتني عن موقف أتوبيس الواحات. قلت أنا ذاهب إلي هناك لاحظت أنها تتعثر في خطواتها. تمشي بضع خطوات ثم تضع حقيبة السفر علي الأرض لتستريح. عرضت عليها حمل حقيبتها فلم تمانع. إنها المرة الأولي التي أقرر فيها الذهاب إلي الواحات. لا أحد ينتظرني هناك. ولا أحد يرافقني. ولا أعرف سببا لرغبتي التي أملت علي الذهاب. وصلنا إلي موقف الأتوبيس. لاحظت أنها لم تتقدم نحو شباك التذاكر مثلي ولم أهتم. علمت أن الأتوبيس سيتحرك بعد نصف ساعة. عرضت عليها الجلوس في كافتيريا المحطة فلم تمانع. عاتبني أصدقائي كثيرا علي عادة متأصلة في طبعي, إذ أنسي نفسي وأنا أنظر في وجوه الآخرين. وقالوا إنها عادة مرذولة. ورغم اقتناعي بنصيحتهم, أضبط نفسي أفعلها في الطريق. فأنا مولع بتأمل الوجوه. ومغرم بقراءة جلد الوجه والعينين. وأشبع رغبة لا أعرف لها سببا. وهذه السيدة التي تجلس أمامي, والتي لم تمانع في حمل حقيبتها, ولم تمانع في دعوتي للجلوس في الكافتيريا, ماذا وراءها ؟ هل هناك غير وجهها يفض غشاء صمتها ؟ تخلصت من ترددي وصوبت نظراتي إلي الوجه الجالس أمامي. شدني جلد متغضن وبريق لامع في العينين. وعندما سألتها ماذا تشرب, لم تسمعني من المرة الأولي. فتأكد شعوري بأنها غائبة عني في عالم لا أعرفه. عدت للجلد المتغضن ولبريق العينين. أقرأ بعمق. مطمئن إلي أنني لن أضبط متلبسا بالتطفل. قالت قراءتي الأولي إنه صراع الشباب والشيخوخة. لم أطمئن لهذه القراءة. قالت قراءتي الثانية عله امتزاج الشيخوخة بالشباب. أحسست بها قراءة قلقة, فقالت قراءتي الثالثة ربما يكون تغضن الجلد مع بريق العينين هو تصالح شيخوخة الجسد مع روح الشباب, قلت ربما وأنا أكاد أختنق بجهلي. فوجئت بها تسألني عن الساعة. قلت(( الثانية وعشرة دقائق)) شكرتني ونظرت في ساعتها. استرخت في مقعدها, فأرسلت إلي عينيها نظراتي. كانت غائبة في عالمها. تخيلتها كالموديل التي تجلس لاهية أمام الفنان ليفعل ما يشاء بوجهها. اكتشفت جمالا في الوجه اللاهي عني. ربما أخفاه التغضن في نظرتي الأولي. جبهة مشدودة, تستدير في انسيابية ونعومة علي ذقن صغير وشفتين رقيقتين. أما شعرها الفضي القصير, فقد تناغم مع بريق عينيها, كأنما يعزفان لحن الجمال الذي لم أنتبه إليه من قبل. وانتقلت عيناي إلي الجاكت الخريفي بألوانه الزاهية, فبدت لي كلوحة فنية بديعة. اكتشفت أنها انتصبت في جلستها وتخلت عن الاسترخاء. وأن رقبتها تتحرك إلي اليمن وإلي اليسار وإلي مدخل المحطة. ولا تكف عن سؤالي عن الساعة ثم النظر في ساعتها. تلبسني توترها. وتملكني حنق علي نفسي لفشلي في قراءة عينيها. وعندما اقتربت الساعة من الثانية والنصف قلت لها الأتوبيس علي وشك التحرك نظرت في ساعتها وقالت تفضل أنت قبل الأتوبيس ما يفوتك سألتها وأنت ؟ قالت تفضل أنت. لا تشغل بالك بي وضعتني أمام الحد الفاصل بين قرارين: أن أركب أتوبيس الواحات أم أبقي معها ؟ دقائق تفصل بين الاختيار: أن أذهب في رحلتي إلي مجهول لا أعرفه, أم أبقي لهدف أجهله ؟ انتبهت علي صوتها الأتوبيس يتحرك. إجر بسرعه كي تلحقه قلت وقد انحزت لرغباتي التي لا أعرف أسبابها أنا لن أسافر كان الصمت رفيقنا الثالث لعدة دقائق. أنا أفكر في قراري الأحمق. وينحفر في صدري سؤال كالسكين: هل هو قرار أحمق فعلا ؟ وسؤال الحمق يسحبني إلي أسلوب حياتي. إلي يوم إجازتي الأسبوعية الذي أخصصه لسفر بلا هدف. وإلي كل أيام الإجازات. أقطع المسافات ذهابا وعودة, إلي الإسكندرية أو دمياط أو المنيا. في كل مرة أشتري تذكرتي ذهاب وعودة علي نفس القطار أو الأتوبيس. يلح أصدقائي في ضرورة عرضي علي طبيب نفسي. أقول لهم إن ما أفعله يحقق لي بهجة لا أعرف مصدرها. ينصحونني بالزواج وقد تخطيت الأربعين. وكلما فكرت بجدية في نصيحتهم, كلما تملكني رعب لا أعرف أسبابه. عادتان تملكتاني: السفر بلا هدف وقراءة الوجوه. عادتان تحققان بهجة أسعي إليها. أدرك أنها غامضة ولكنها تشعرني بنبض الحياة. بعد رحلة العودة من سفر بلا هدف, أشعر أنني التقيت معشوقتي وتبادلنا الحديث والغرام. وشخصنا أوجاع النفس وأمراض المجتمع وأزمة الوجود, فأنام كالعاشق علي صدر معشوقته. أما متعة قراءة الوجوه فهي لصيقة بمتعة السفر بلا هدف. إذ يتملكني يقين أنني كلما تمكنت من قراءة الوجوه, فهذا يعني أنني موجود. ولكن.. آه.. ها أنا أفشل في قراءة الوجه الجالس أمامي. وكيف لم أكتشف أن بريق العينين اللامع يذوي وينطفيء مع مرور الدقائق وسؤالها الملح عن الساعة ؟ انتبهت علي صوتها هل كنت تنتظر أحدا ؟ ترددت في الإجابة. وبعد أن نظرت في عينيها اللوزيتين وإلي شفتيها الورديتين, فضلت الكذب فقلت نعم سألتني صديق أم صديقة ؟ تصورت أن الكذبة كلما كانت كبيرة, كلما كان تأثيرها أعمق فقلت صديقة قالت أكيد أنت حزين لأنها لم تحضر؟ قلت: بالعكس. أنا سعيد لأنها لم تحضر قالت كيف تكون سعيدا لإنها لم تحضر؟ هذا أغرب رد سمعته في حياتي قلت وقد تصورت أنها تخاطب نفسها أكثر مما تخاطبني من لا يحترم الموعد, لا يستحق الزعل عليه انفعلت وانتفضت وعلا صوتها لأول مرة أنت تجلس هنا ولا تعرف ماذا حدث لها. ربما تعرضت لحادثة ؟ أو..أو... فوجئت بسحابات تضبب عينيها. أيقنت أن حماقتي بلا حدود. وأنها تبكي حالها الذي أجهله. وتتحسر علي أتوبيس الواحات الذي تركها وحيدة في صحراء بلا بشر. أحسست بالكلمات علي لساني مقيدة. والمعاني تتزاحم وتتصارع. هل أقول لها أنني كنت أكذب عليها ؟ وأنني إنسان عابث وأحمق ؟ هل أكتفي بالاعتذار لأنني فجرت دموعها ؟ أنقذتني من حيرتي عندما سألتني عن الساعة. قلت الثالثة والنصف نظرت في ساعتها وقالت أنا سأغادر المحطة. هل لديك أمل في وصول صديقتك ؟ أدهشتني براءتها المضادة لحماقتي. لم أجد سلاحا غير سلاح الحماقة فسألتها هل كنت تنتظرين أحدا ؟ كنت أخشي أن تنغلق علي نفسها وترفض البوح. ولكنني فوجئت بها ترد بعفوية طبعا قلت صديق. أليس كذلك ؟ قالت بنفس العفوية التي أدهشتني كثيرا لعدة سنوات: صديق ؟ وأي صديق ؟ إسمع يا أستاذ.. ليس من المهم أن أعرف اسمك. أرجوك أن تسأل عن صديقتك. يجب أن تطمئن عليها ولا تتخلي عنها. خذ نصيحتي وخبرتي. صديقي الذي لم يحضر, قابلته من أسبوعين بعد فراق عشرين سنه. قضينا أجمل أسبوعين في حياتنا. قال لي إنه بني بيتا في الواحات. عرض علي أن أعيش معه هناك. ونبدأ حياتنا من جديد تضاربت انطباعاتي وهي تتكلم. هل هي تغسل همومها وتتطهر وتسمو فوق معاناتها ؟ أم إنها تستسلم وتخبو كما خبا بريق عينيها وهي تنظر في الساعة وفي كل الإتجاهات ؟ قلت أواسيها وقد تغلغلت روحها في وجداني أكيد فيه سبب خارج عن إرادته منعه من الحضور قالت كلامك صحيح. لكن كيف أعرف ؟ قلت مستنكرا سؤالها تعرفي عندما تتصلي به وتسأليه قالت بنفس العفوية المشكله إني لاأعرف له لا تليفون ولا عنوان لولا جلال الموقف لضحكت بعنف. أسعدني أنني لست الأحمق الوحيد. كتمت رغبتي في الضحك وقلت هذا عبث فوجئت بها تسألني عن وظيفتي, أدهشني سؤالها. قلت أستاذ فلسفة قالت أنا أيضا أحب الفلسفة وإن كنت لا أفهمها. وغير قادرة علي فهم الحياة, رغم حبي لها نظرت في الساعة ولم تسألني عنها كما اعتادت. ثم قالت أعتقد أنه لا جدوي من الانتظار تخبط لساني وارتبك وأنا أقول طبعا كنت أود أن يطول البقاء وأن يستمر الحديث. كانت قد نهضت قبلي. انحنت تحمل حقيبة السفر. عرضت عليها حمل الحقيبة فلم تمانع. وغادرنا بوفيه المحطة.