"ليس يعلم أحدُ إلا الله: كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة، وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، نحلل العلل والأدواء، ونفكر في العلاج، وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر، لما وصلنا إليه، إلى حد البكاء". هكذا نطق أحد الصالحين بلسان الأمة، مما لا علاج له، فيما أرى، إلا "اليقين"، الذي وصفه "ابن القيم"، يرحمه الله، بأنه "من أفضل مواهب الرب لعبده؛ إذ لا تثبت قدم الرضا إلا على درجة اليقين". فلا صلاح للأمة إلا باليقين بالله، وغرسه في النفوس، وتذكر الآخرة، والاستعداد لها.. قال تعالى: "وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ".(البقرة:4). وقال: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".(التغابن: 11).. قال ابن مسعود: "هو العبد، تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من الله، فيرضى، ويسلم. وقال ابن القيم: "فهذا لم يحصل له هداية القلب، والرضا، والتسليم، إلا بيقينه" (مفتاح دار السعادة) . وقال تعالى - حكاية عن موسى وهارون، عليهما السلام -: "قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)".(طه). "معكما".. هي معية النصر والتأيد لعباد الله جميعا.. فقد قال سبحانه: "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ" (النحل: 128). وقال: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ".(الحج:40). وهؤلاء "سحرة فرعون" يضربون المثل في قوة اليقين بالله.. قال تعالى: "فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ (70) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ (71) قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (73)".(طه). وفي قصة موسى، عليه السلام، وأصحابه؛ نطالع اليقين بالله تعالى في رده عليهم. قال سبحانه: "فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)". (الشعراء). إنه "اليقين بالله تعالى" الذي جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول ليزيد في رحلة الطائف: "يَا زَيْدُ: إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ، وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ". ("الطبقات الكبرى" لابن سعد). وهو "اليقين بالله" الذي تربى عليه الصحابة، رضي الله عنهم. وهذا عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، يقول، فيما علقه البخاري: "الصبر شطر الإيمان، واليقين الإيمان كله". وهو "اليقين بالله" الذي جعل "الخنساء" التي كانت تولول في الجاهلية على أخيها صخر، هي نفسها التي تقول، وقد ملأ الإيمان قلبها، عندما استشهد لها أربعة من الأبناء: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأسأل الله أن يلحقني بهم"، ثم تقول للرجال، عندما بلغتها الشائعة الكاذبة بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، في "أحد": "قوموا فموتوا على ما مات عليه رسولكم". هكذا، كان "اليقين بالله" دأب التابعين، وعلامة الصالحين.. قال سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: "حَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ أَنْ يَشُمَّ رَائِحَةَ الْيَقِينِ، وَفِيهِ سُكُونٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَحَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ أَنْ يَدْخُلَهُ النُّورُ، وَفِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يَكْرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" . وقيل: "إذا استكمل المرء حقيقة اليقين.. صار البلاء عنده نعمة، والمحنة منحة". ومن علامات اليقين: "النظر إلى الله في كل شيء، والرجوع إليه في كل أمر، والاستعانة به في كل حال، والالتفات إليه في كل نازلة، والأُنس به في كل وقت، وإرادة وجهه في كل حركة وسكون، وعدم الالتفات عنه إلى غيره في كل حال".(موسوعة "فقه القلوب"). أخيرا، قال عبد الله النديم: "إذا ما الدهر صافانا مرِضنا.. فإن عُدنا إلى خَطْب شُفينا.. لنا جَلَدُ على جِلْد يقينا.. إذا زاد البلاد زاد اليقينا". [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد