تأتى القمة المرتقبة بالقاهرة بين الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى والرئيس الفرنسى فرانسوا هولاند، ضمن النشاط الدبلوماسى الفرنسى من أجل حشد أكبر عدد من الشركاء لإنجاح المبادرة الفرنسية لتسوية الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وذلك إنطلاقا من التفاهمات المشتركة بين البلدين حول العديد من الملفات الاستراتيجية، وإدراك الطرفين أن المساهمة فى حل ذلك الصراع، وفقا لحلول عادلة تستند على الاعتراف بالدولة الفلسطينية سوف يسهم فى استعادة الأمن والاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط التى تعتبر منطقة استراتيجية من أجل الأمن العالمي. وعلى الرغم من كونها مهمة شاقة وتحاط بالكثير من الصعوبات التى تعلمها جيدا فرنسا، إلا أنها قررت خوض ذلك المعترك من خلال محاولة إطلاق مسار المفاوضات وفقا لآلية دولية تستند على حل الدولتين، ووفقا لجدول زمنى محدد. وترى فرنسا أن مصر يمكن أن تلعب دوراً مهما فى تفعيل تلك المبادرة لما تمثله من ثقل استراتيجى فى المنطقة، فضلا عن عضويتها فى مجلس الامن ورئاستها للجنة الوزارية العربية المعنية بالتحرك لدعم القضية الفلسطينية. وقد رحبت القيادة الفلسطينية بالمبادرة ورأت أن تدويل الرعاية الدولية للمفاوضات مع إسرائيل يمكن أن يسهم فى تقليل الاستحواذ الامريكى على ملف التسوية. وقد ساهم الرأى العام الأوروبى المناهض لسياسات إسرائيل، والذى تمثل فى الاعترافات البرلمانية المتتالية بالدولة الفلسطينية، والتى انطلقت من السويد مروراً ببريطانيا ثم إيرلندا واسبانيا وفرنسا واكتساب الدولة الفلسطينية صفة العضو المراقب فى الأممالمتحدة، فضلا عن تنامى حركة المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية الدولية لإسرائيل، وكذلك الانتقادات الدولية لسياسة الاستيطان الإسرائيلية، فى تشجيع فرنسا نحو طرح مبادرتها الراهنة لتسوية الصراع الفلسطينى الاسرائيلى. مستندة على ما تمتلكه من رصيد من العلاقات الجيدة مع دول إسلامية وعربية، فضلا عن احتفاظها بعلاقات متوازنة مع الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى، فعلى الرغم من علاقتها القوية مع إسرائيل إلا أنها أعترفت بمنظمة التحرير وأيدت تمثيلها كعضو مراقب فى الأممالمتحدة عام 1974 وأدلت بصوتها لصالح فلسطين كدولة مراقب غير عضو فيها عام 2012. استكمال تحركات ولا تعد المبادرة الفرنسية الراهنة الأولى من أجل دفع مسيرة السلام المتعثرة، بل تعد استكمالا لسلسلة تحركات فرنسية لم يكتب لها النجاح من قبل بسبب التصدى الأمريكى لها، وكان من بينها مقترح عقد مؤتمر سلام عام 2009 إلا أنه تم تأجيله نتيجة لبعض التغيرات فى الحكومة الفرنسية فى ذلك الوقت، ثم تجدد المقترح فى 2 مايو 2011 من خلال طرح مبادرة الرئيس الفرنسى السابق نيكولا ساركوزي، والتى جاءت رداً على توقف محادثات السلام بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى فى 2 أكتوبر2010 بعد أربعة أسابيع من إطلاقها برعاية أمريكية، وذلك بسبب الخلاف على البناء الاستيطانى الإسرائيلي، حيث هدد على أثرها الجانب الفلسطينى بالتوجه إلى الأممالمتحدة من أجل طلب عضوية دولة فلسطين على حدود عام 1967 ردا على استمرار تعثر محادثات السلام مع إسرائيل. وتضمنت تلك المبادرة الفرنسية استئناف المفاوضات على أساس حدود 67 مع تبادل للأراضى متفق عليه، مع وضع ترتيبات أمنية للطرفين الاسرائيلى والدولة الفلسطينية، والوصول إلى «دولتين للشعبين» وليس فقط «حل الدولتين»، بما يعنى اعترافا فلسطينا بيهودية الدولة الإسرائيلية. وفى مرحلة لاحقة، أطلق الرئيس الفرنسى فرنسوا هولاند مبادرة أخرى تضمنت عقد مؤتمر دولى فى العاصمة الفرنسية باريس، من آجل تحريك المفاوضات المتوقفة إلا أنها لم تحظى بالقبول الكافى، ولاقى معارضة من جانب الولاياتالمتحدة التى اعتبرت أن التوقيت غير مناسب لأنه جاء مباشرة قبل الانتخابات الإسرائيلية 2014. ثم أعادت فرنسا طرح المبادرة مجددا فى منتصف العام 2015، وجددت دعوتها لعقد مؤتمر دولى للسلام، مع استنادها على محاور رئيسية، أهمها تحديد مهلة 18 شهراً للتوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض، مع مطلب الاعتراف بالطابع اليهودى لإسرائيل، ووضع معايير تضمن أمن إسرائيل وفلسطين والإلتزام بحدود يونيو 1967 واعتبار هذه المبادرة بمثابة تسوية نهائية وليست اتفاقاً مؤقتاً. والجديد فى تلك المبادرة عن 2011 هو تضمين جعل القدس «عاصمة مشتركة» بين الدولتين، وتحقيق حل عادل ومتزن وواقعى لقضية اللاجئين الفلسطينيين، يكون مستندا على التعويض، إلا أن وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى طالب من لوران فابيوس وزير الخارجية الفرنسى إرجاء المسعى الفرنسى وتأجيل عرض المبادرة الفرنسية على مجلس الأمن لحين الانتهاء من مفاوضات البرنامج النووى الإيراني، واستجابت الخارجية الفرنسية للمطلب الأمريكى. ثم جدد وزير الخارجية الفرنسى السابق لوران فابيوس دعوته لاستئناف مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، وذلك خلال خطاب ألقاه فى نهاية شهر يناير 2016 بمقر وزارة الخارجية الفرنسية. وتكمن أهمية تلك المبادرة فى دلالات توقيتها، حيث جاءت متزامنة مع حالة عدم الاستقرار التى تشهدها المنطقة بعد فوضى الثورات العربية وانتشار خطر الارهاب عابر الحدود، الذى أصبح مصدرا لتهديد أمن واستقرار المنطقة فضلا عن دول أوروبا، ومن بينها فرنسا. كما جاءت بعد فشل جولة المفاوضات التى أجريت بين الطرفين برعاية وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى والتى استمرت لمدة تسعة أشهر خلال الفترة من 30 يوليو 2013 وحتى 29 أبريل 2014. فضلا عن دخول انتفاضة القدس إلى شهرها السادس. خطة فابيوس وقد تولى مهمة متابعة تلك المبادرة المبعوث الفرنسى الخاص لشئون المؤتمر الدولى للسلام فى الشرق الأوسط بيير فيمونت. وتقضى المبادرة الفرنسية أو (خطة فابيوس) بتحديد جدول زمنى لعام ونصف العام من المفاوضات، التى بعدها إذا لم يتم التوصل لاتفاق سلام، فإن الأممالمتحدة تعترف بفلسطين دولة مستقلة فى حدود العام 1967 مع تبادل أراض، على أن تكون القدس عاصمة للدولتين. وذلك من خلال اصدار قرار دولى من مجلس الأمن يضع جدولا زمنيا لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وعدم ترك الحالة بين اللاحرب واللاسلام. ومن الملاحظ أن تلك المبادرة الفرنسية، لم تتضمن محاور جديدة تختلف جذريا عن المقترحات الفرنسية السابقة، باستثناء عدم اشتراطها اعترافاً فلسطينياً بيهودية الدولة، فضلا عن التهديد الفرنسى بالاعتراف بالدولة الفلسطينية إذا فشلت جهود انعقاد المؤتمر الدولي، إلا أن فرنسا سرعان ما تراجعت عنه على لسان وزير خارجيتها جان مارك آيرولت، حيث قال فى تصريحات صحفية إن باريس لن تعترف «تلقائيا» بالدولة الفلسطينية فى حال فشل مبادرتها من أجل إعادة إطلاق عملية السلام. وقد اعتبر البعض ذلك التراجع الفرنسى ترجمة لنجاح الدبلوماسية الإسرائيلية الضاغطة من آجل تحسين شروط التفاوض بالنسبة إليها وعدم وضع شرط مسبق يعزز المركز التفاوضى للجانب الفلسطينى. فضلا عن رغبة فرنسا فى تهدئة الأجواء مع الجانب الإسرائيلى لتشجيعه على خوض المفاوضات. وتستند المبادرة على جدول زمنى يبدأ بعقد اجتماع خلال أبريل الجارى يضم الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن، و«رباعية عربية» تضم مصر والسعودية والأردن والمغرب، مع عدم حضور مسئولين من إسرائيل أو من منظمة التحرير، ثم تضع هذه المجموعة جدول أعمال للمؤتمر الدولى المتوقع انعقاده فى يوليو فىباريس. وأخيراً يتم عرض مشروع قرار يتضمن ما يتفق عليه المؤتمر الدولى فى مجلس الأمن الدولى قبل نهاية 2016. معوقات التنفيذ على الرغم من حرص الإدارة الأمريكية على عدم رفض المبادرة بشكل صريح، أو إبداء غضب حيال الحضور الفرنسى لتسوية الصراع، والذى اتضح فى سياق إجابة وزير الخارجية الأميركى جون كيرى وهو فى باريس فى الثالث عشر من مارس عن تساؤل خاص بموقف بلاده من المبادرة الفرنسية، حيث قال إن «الولاياتالمتحدة تظل ملتزمة التزاما عميقا بحل الدولتين، فهذا الحل أساسى بصورة قطعية ولا يوجد أى بلد أو أى شخص يمكنه منفردا أن يجد حلا لذلك، فهذا سوف يحتاج الى المجتمع العالمي، وسوف يتطلب دعما دوليا». إلا أن ذلك التصريح لا يمكن أن يفسر بأنه موافقة على دور فرنسى بديل عن الدور الأمريكى بقدر ما هو مجرد تكتيك يتلائم مع حالة التأييد العالمى المتزايد لعقد المؤتمر الدولي. والدليل على ذلك أنه تزامنا مع طرح المبادرة الفرنسية قام وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى بجولة إلى المنطقة كان الهدف منها مجرد تأكيد حضور واشنطن فى المنطقة التى تعد ذات أهمية جيوستراتجية بالنسبة لمصالحها، والتأكيد على أن أى حل للصراع لن يكون إلا من خلال المباركة الامريكية. أما إسرائيل فإنه يبدو أنها تسعى إلى تحسين شروط دخولها التفاوض، فعلى الرغم من أنها تخشى أن تؤدى موافقتها على تلك المبادرة إلى انتهاء الاستحواذ الأمريكى على رعاية المفاوضات، خاصة مع تصريحات سابقة للرئيس الأميركى نفسه بأن غياب عملية السلام وشروط نتنياهو الصعبة لها سيجعلان من الصعب على واشنطن مواصلة الدفاع عن إسرائيل فى الأممالمتحدة، بما يعنى عدم اللجوء إلى استخدام (الفيتو) فى مجلس الأمن ضد مشروع القرار الفرنسي. إلا أن ما يطمأن إسرائيل بأن واشنطن لن تنفذ تهديداتها، هو أن المجتمع الدولى لا يملك تكتيكات حازمة لإجبار إسرائيل على الالتزام بما يتم التوصل إليه فى نهاية تلك المفاوضات، كما أن الاستيطان الإسرائيلى وتهويد مدينة القدس، وضع حل الدولتين فى أزمة نتيجة التغييرات التى أحدثها فى الأراضى الفلسطينية. فى الوقت نفسه سعت إسرائيل من خلال دبلوماسيتها النشطة فى الدائرة الأوروبية العمل على تحجيم الاجماع الأوروبى حول المبادرة الفرنسية، والذى اتضح من خلال التحول فى الموقف الألمانى تجاه تسوية القضية الفلسطينية، والذى عبرت عنه المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، خلال المؤتمر الصحفى المشترك مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو فى 16 فبراير الماضى بأن «الوقت الحالى ليس أوان حل الدولتين، بل يجب التقدم تدريجياً فى هذه العملية»، حيث اعتبرت إسرائيل ذلك الأمر نجاحا لدبلوماسيتها من أجل تحسين موقف إسرائيل التفاوضى من خلال كسب التأييد الألمانى لإسرائيل، والاستعانة بنفوذها السياسى وقوتها الاقتصادية فى الكتلة الأوروبية لمواجهة المبادرة الفرنسية. ويضاف إلى ما سبق نجاح نتنياهو فى منع الاتحاد الأوروبى من اتخاذ خطوات عقابية إضافية كان قد هدد بها، فى حال استمرار البناء فى المستوطنات وإعاقة التوصل إلى حل الدولتين. تنفيذ مشروط إذا يمكن القول إنه على الرغم من أهمية تلك المبادرة نحو دفع المجتمع الدولى لتحمل مسئولياته تجاه إنهاء المشكلة الفلسطينية، وفقا لجدول زمنى محدد، إلا أن الأمر سيبقى مرهونا إلى حد كبير بمآلات الموقف الأمريكى وحدود تأثيره على إسرائيل، خاصة مع محدودية الدور الأوروبى فى تسوية النزاعات فى الشرق الأوسط بشكل مستقل عن المظلة الأمريكية، وإلا فإن المبادرة ستتحول إلى مجرد قرار يصدره مجلس الأمن الدولى من دون أى آلية دولية لتنفيذه على الأرض، وتصبح فى النهاية مجرد إحدى أدوات إدارة الصراع وليس حله.