فى السبعينيات من القرن الماضى استعان الرئيس الراحل أنور السادات بالإخوان والجماعات الإسلامية لمواجهة التيارات اليسارية من الناصريين إلى الماركسيين، التى كان لها وجود كبير بالجامعات ولدى قطاعات كثيرة بالمجتمع، وانتهى الأمر بكارثة مروعة مازلنا ندفع ثمنها حتى اليوم. والآن يسعى البعض لاستنساخ الفكرة ولكن بشكل عكسي، أى محاولة الاستعانة باليسار الماركسى تحديدا لمواجهة خطاب التطرف الإسلامي، دون أن نعى دروس التاريخ التى تؤكد دوما أن مواجهة التطرف بتطرف مضاد ينتهى دائما بكارثة. فبعيدا عن هموم وتطلعات ملايين المصريين البسطاء بمختلف محافظات مصر من أقاصى الصعيد حتى صحارى سيناء، تغرق النخبة المسيطرة على الحياة الثقافية والإعلامية بالقاهرة فى معارك أخرى تفرضها على المسئولين والإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ليظن الجميع أن هذه هى اهتمامات وأولويات الشعب المصري، بينما ملايين البسطاء بالمحافظات ينظرون بدهشة شديدة لهذه النخبة ولسان حالهم يتساءل: هل هؤلاء يعبرون عن مجتمع آخر غير الذى نعيش فيه ؟! ففجأة تندلع معركة النخبة دفاعا عن حرية الفكر والرأى والإبداع، وهى قضية بدهية، فمن غير المقبول بعد ثورتين عظميين (25 يناير و30 يونيو)، وبعد الإطاحة بنظام مبارك الديكتاتورى ونظام الإخوان الفاشي، أن نعانى أزمة فى حرية الفكر والرأى والإبداع. واستبشرنا خيرا أن هناك أخيرا حراكا من النخبة للبحث عن مصير مشروع قانون حرية تداول المعلومات، فبدون إتاحة المعلومات الصحيحة وتنظيم طرق الحصول عليها ومعاقبة من يشارك فى حجب المعلومات غير المتعلقة بالأمن القومى عن الرأى العام لن تكتمل حرية التعبير. وتفاءلنا بأن مثقفينا أدركوا خطورة عدم إفراج الحكومة حتى الآن عن مشروع القانون المنظم للصحافة والإعلام، وتحركوا ليرى القانون النور وتنتهى الفوضى الإعلامية بكل أشكالها، ويعاد تنظيم وسائل الإعلام المملوكة للدولة لتقوم بالدور القومى المنوط بها، وتؤدى رسالتها فى التنوير والتعبير عن جميع التيارات والأفكار التى يموج بها المجتمع، والدفاع عن المصالح العليا للبلاد دون أجندات خاصة يفرضها عليها رجل أعمال أو تمويل أجنبي. وسعدنا لأن مفكرينا الكبار سنا ومقاما قرروا الالتحام بملايين البسطاء فى انحاء مصر، فانتفضوا يسعون لإعادة تفعيل دور قصور الثقافة المنتشرة فى كل المحافظات، بمساعدتها على اكتشاف المواهب الواعدة واحتضانها ورعايتها، ليكون لدينا آلاف المبدعين الجدد الذين يعبرون بحق عن أهاليهم من البسطاء والكادحين، وتشرق شمس المعرفة فى مواجهة ظلام الجهل والتطرف فى كل قرية. لكن المفاجأة أن هبة هذه النخبة لم تكن من أجل كل ذلك، أو حتى بعض منه، إنما كانت دفاعا عن حرية الكتابة عن «الأعضاء الجنسية»، فكيف يتجرأ القضاء على التصدى للإبداع الجنسى المنشور للعامة فى إحدى الصحف، وإذا لم يكن الوصف التفصيلى للأعضاء الجنسية لدى الرجل والمرأة إبداعا فماذا يكون الإبداع إذن ؟! قد يظن جاهل مثلى أن هذا يسمى فى اللغة العربية «إسفافا»، أو أن مبدعين حقيقيين مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس لم ينحدروا إلى هذا المستوى فى كتاباتهم رغم تناولهم الجنس فى عديد من كتاباتهم، لكن بعضا من نخبتنا يرى أن الإبداع الجنسى هو قمة حرية الرأى والتعبير، وهو مطلب جماهيرى كاسح للملايين من مطروح إلى حلايب وشلاتين. وفى السياق نفسه تظهر معركة وهمية أخرى اسمها «ازدراء الأديان»، وهى جريمة يعرفها قانون العقوبات المصرى منذ صدوره ويستهدف من مواجهتها تحقيق السلام الاجتماعى والاستقرار ومنع الفتن فى المجتمع، فالسماح بارتكابها يعنى ببساطة إتاحة الفرصة على مصراعيها أمام مثيرى الفتن للطعن فى الأديان والعقائد، الأمر الذى سيؤدى إلى حوادث عنف كثيرة، فعندما يتخلى القانون عن حماية المعتقدات العقائدية والدينية فى المجتمع لن يكون أمام شعب متدين بالفطرة مثل المصريين مسلمين ومسيحيين إلا أن يهبوا للدفاع بأنفسهم عن معتقداتهم الدينية، فهل هذا ما نريده الآن ؟ إن التفرقة بين حرية الاجتهاد التى لها مناهجها العلمية المعروفة، وبين السخرية من الشعائر الدينية المقدسة والطعن فيها وسب الرموز الإسلامية بأقذع أنواع السباب، أمر ضرورى ومهم لمن يريد التعامل بموضوعية مع مثل هذه القضايا، وهو أمر لا علاقة له بحرية الرأى والتعبير التى ينظمها دائما القانون الذى ارتضاه المجتمع، ولا توجد حرية مطلقة فى أى دولة بغض النظر عن خصوصيتنا فلا يستطيع أى شخص فى أمريكا أو فرنسا أو المانيا مثلا مهما يكن أن يسخر من شعيرة يهودية، فسوف يقدم إلى المحاكمة فورا بتهمة معاداة السامية. ويرتبط بالموضوع نفسه، قضية تجديد الخطاب الدينى التى تحولت إلى «مولد وصاحبه غايب»، وتبارى الجميع فى الحديث عنها دون وضع أبسط القواعد العلمية للمعالجة مثل تحديد المفاهيم والأهداف والوسائل وغيرها، وقد أطلق الأزهر العام الماضى بعد لقاءات مع عدد من المثقفين والمفكرين من شتى الاتجاهات وثيقة «آليات تجديد الفكر والخطاب الدينى»، ثم اختفى الموضوع ولم نعد نسمع عنه شيئا، حتى فوجئنا بالاجتماعات التى يعقدها بعض المثقفين الذين ينتمى معظمهم للتيار الماركسى لإعداد مشروع تجديد الخطاب الدينى! إن التطرف لا يواجه بالتطرف، وإلا ستحدث كارثة وستزداد مساحة التطرف على الجانبين، وليكن هدفنا محددا بوضوح وهو العودة فى كل مناحى الحياة إلى الإسلام الوسطي، بعيدا عن الإسلام الداعشى أو الإسلام الماركسي، وهو مايتسق مع الفطرة ومع طبيعة المجتمع المصري، ولدينا آلاف العلماء والمفكرين والخبراء «الموضوعيين» الذين يستطيعون القيام بذلك بعيدا عن الشللية والأهواء الإيديولوجية، فلماذا نكافح التطرف بالتطرف؟! [email protected] لمزيد من مقالات فتحي محمود