بيان الحكومة الذى قدمته لمجلس النواب فى بداية الأسبوع الماضي، يمثل برنامج العمل الذى تلتزم بتنفيذه منذ الآن وعلى مدى العامين المقبلين، حتى نهاية يونيو 2018، ويوضح توجهات الحكومة بشأن التعامل مع التحديات الرئيسية التى تواجهها بلادنا، وفى القلب منها تحديات الوضع الاقتصادى والاستجابة لمطالب العدالة الاجتماعية. القراءة الأولية للجوانب الاقتصادية والاجتماعية فى البيان، توضح العديد من النقاط الإيجابية لعل فى مقدمتها توجه الحكومة إلى التركيز خلال العامين المقبلين على تحسين ورفع كفاءة منظومة الخدمات العامة المرتبطة بحياة المواطنين وخاصة فيما يتعلق بالإسكان وتوفير مياه الشرب والصرف الصحي، وتطوير المستشفات والوحدات والمراكز الصحية، وتوفير البنية الأساسية اللازمة للتعليم من خلال بناء المدارس و زيادة عدد الفصول، وتطوير وتحديث السكك الحديدية والمزلقانات. من النقاط الإيجابية أيضا استهداف رفع نسبة الاكتفاء الذاتى من بعض السلع والمنتجات الأساسية و الإستراتيجية على رأسها القمح والذرة الصفراء واللحوم والدواجن والألبان والأسماك والمنتجات البترولية، و السعى إلى إعادة الاعتبار للتصنيع ورفع مساهمة قطاع الصناعة فى الناتج المحلى الإجمالي، فضلا عن التوجه الواضح نحو تنمية الصعيد. والأمر المهم أنه بالنسبة لغالبية النقاط سالفة الذكر تضمن البيان تحديد الأهداف الكمية المطلوب تحقيقها، والتكلفة المالية، والجدول الزمنى للتنفيذ. إلا أن هذا الالتزام بالتحديد الكمى للأهداف والتكلفة المالية والجدول الزمنى للتنفيذ قد غاب عن العديد من الأهداف الاقتصادية والاجتماعية الأخرى التى تضمنها بيان الحكومة، ليتحول الأمر فى كثير من الأحيان إلى عبارات إنشائية مرسلة لا يمكن إخضاعها للمتابعة والمساءلة. بل إن بعض تلك العبارات أصلا ليس له أى معني. ولعل من أبرز الأمثلة فى هذا الشأن الحديث عن تطبيق نمو احتوائى من خلال سياسات التوزيع العادل! وتتساءل وأتساءل معك عن المقصود بتلك العبارة. هل المقصود هو التوزيع العادل للاستثمارات والمشروعات وبالتالى فرص العمل فى كل المناطق الجغرافية؟ هل المقصود هو التوزيع العادل للدخول؟ وهل يكفى لتحقيق هذا الهدف توفير الدعم النقدى المشروط لنحو1.5 مليون أسرة ؟ و كيف يمكن الحديث عن إعادة توزيع الدخل دون تقرير حد أدنى للأجور فى القطاع الخاص أو تطبيق ضرائب تصاعدية على الدخول المرتفعة؟ ثم.. بجد.. ماهو المقصود بمد مظلة الحماية التأمينية لأصحاب المعاشات؟ وبالمناسبة هذه هى الجملة اليتيمة التى ورد فيها ذكر أصحاب المعاشات فى بيان الحكومة. أيضا من الجمل الإنشائية غير المحددة فى البيان الاهتمام بحل مشكلات المزارعين وتقديم التسهيلات لهم! وبالطبع لا يوضح البيان ماهى تلك المشكلات على وجه التحديد؟ وماهى الحلول التى تطرحها الحكومة لكل منها؟ وما هو الجدول الزمنى لتنفيذها؟ وبالإضافة إلى العبارات الإنشائية والمرسلة، يتسم بيان الحكومة بتواضع الأهداف الاقتصادية الكلية التى يسعى إلى تحقيقها، سواء تعلق الأمر برفع معدل النمو الاقتصادى أو خفض معدلات البطالة وعجز الموازنة العامة للدولة و عجز ميزان التجارة الخارجية . وفى تصورنا أن تواضع تلك الأهداف عن المستويات المطلوبة لإحداث نقلة حقيقية فى مستوى معيشة القاعدة العريضة من الشعب يرجع بالأساس إلى إحجام الحكومة عن اتخاذ أى سياسات جادة لتعبئة الموارد المحلية ورفع معدلات الادخار إلى المستويات اللازمة لتمويل معدلات الاستثمار التى نحتاجها. بيان الحكومة يستهدف تعبئة مستوى متواضع للادخار لا يتجاوز معدله 9% - 10%، وتحقيق معدل متواضع للاستثمار يتراوح بين 18% و 19% ، ويعتمد فى سد الفجوة بين الاثنين على اللجوء إلى التمويل الخارجى سواء كان فى شكل قروض أو استثمارات أو تدفقات رءوس أموال فى البورصة. رفع معدلات الادخار على المستوى القومى يتطلب ليس فقط توفير الأوعية الادخارية الجاذبة للأفراد ولكن أيضا وبالدرجة الأولى زيادة الإيرادات الضريبية على النحو الذى يؤدى لتحقيق خفض ملموس فى عجز الموازنة العامة للدولة. بيان الحكومة يخلو بالطبع من أى سياسات وأهداف قابلة للقياس والمتابعة بشأن رفع كفاءة الجهاز الضريبى ومواجهة التهرب وزيادة معدلات التحصيل، ناهيك عن إعادة النظر فى التخفيضات الضريبية التى سبق إقرارها على دخول وأرباح كبار رجال الأعمال والمتعاملين فى البورصة والفئات القادرة. الوسيلة الرئيسية التى تحدث عنها البيان لزيادة الإيرادات العامة وتخفيض عجز الموازنة تمثلت فى تطبيق الضريبة على القيمة المضافة، والتى تمثل ضريبة مركبة تضاف على أسعار السلع والخدمات المحلية والمستوردة، وتؤدى بالضرورة إلى رفع معدلات التضخم وازدياد صعوبة الحياة للفقراء وأصحاب الدخل الثابت. أما المذهل حقا فهو تواضع الأهداف المتعلقة بتخفيض عجز ميزان التجارة. فعلى الرغم من أن بيان الحكومة يتحدث عن زيادة الصادرات و ترشيد الاستيراد وضبط منظومة الواردات، فإنه يستهدف فى نهاية الأمر تخفيض عجز الميزان التجارى بمعدل بالغ التواضع لا يتجاوز 3%- 5%. برنامج الحكومة يستجيب لرؤية وضغوط المستوردين، ويصم الآذان عن كل دعوة لمواجهة نقص موارد النقد الأجنبى من خلال وقف استيراد السلع ذات البديل المحلى والسلع التى لا تشكل حاجة ضرورية للقاعدة العريضة من المصريين. الأرضية التى ينطلق منها بيان الحكومة هى الاستمرار فى الاستيراد حتى لو كنا لا نملك ثمن ما نستورده، والاعتماد على التوسع فى التمويل الخارجى لسد الفجوة. كيف تستقيم هذه النظرة مع السعى لزيادة معدلات الاكتفاء الذاتى من السلع الأساسية وإعادة الاعتبار للصناعة الوطنية؟ بجد.. بيان الحكومة يعكس انفصاما فى الشخصية! لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى