'هي نعجة ولو طارت'.. هذا المثل العربي يصدق علي الحوار الدائر بين التيارات السياسية المختلفة, والمنابر الإعلامية المتباينة التوجهات. وهو يعني أن المتلقي لن يغير أفكاره مهما فعلنا. وبالتالي فلا يجب علينا بذل المزيد من الجهد في الإقناع. يبدو أن هذا هو ذات ما يواجهه البنك المركزي الذي يشهر سلاح' الصمت' في وجه منتقديه, ويستمر في سياساته دون إلتفات للخلف, وكأنه بهذا الصمت يحل المشاكل, وينهي الجدل. وربما تكون سياسة الصمت هذه مثمرة في بعض الاحيان, ولكنها بالتأكيد مع طول الأمد, غير مطلوبة لإنها تترك الساحة خصبة لمزيد من' الإفتكاسات' الضارة. ولكن علي غير العادة شارك البنك المركزي في ندوة' جادة' نظمها المركز المصري للدراسات الإقتصادية الأسبوع الماضي بعنوان:' أولويات السياسة النقدية واستهداف التضخم' من خلال محاضرة لرانيا المشاط وكيل المحافظ المساعد والتي حاولت فيها التصدي لمدفعية ثقيلة من خبراء مهمين يتقدمهم الدكتور محمود أبو العيون محافظ البنك المركزي الأسبق والأستاذ بجامعة الزقازيق حاليا وصاحب العديد من المواقع القيادية بالعالم العربي, والدكتورة ماجدة قنديل مدير مركز الدراسات الإقتصادية, وأدارتها الدكتورة فائقة الرفاعي وكيل محافظ البنك المركزي الأسبق, كما شارك بالحضور لفيف من الخبراء والإقتصاديين من ابرزهم الدكتور سمير رضوان وزير المالية الأسبق, والدكتور أحمد الدرش وزير التعاون الدولي والتخطيط الأسبق, والدكتور محمد تيمور الخبير الإقتصادي المعروف. كان من الواضح أن هناك العديد من الإستفسارات المهمة التي ساقها المتحثون خلال كلماتهم بالندوة, ولضيق الوقت, لم تحصل رانيا المشاط علي فرصتها كاملة في الرد, ولكنها علي أية حال أبرزت أهم النقاط للحوار الذي يحتاج بكل تأكيد للإستكمال من خلال ندوة أكثر شمولية يتم إستدعاء خبرات دولية إليها من صندوق النقد الدولي وخبراء من دول تمكنت من تحقيق المعادلة الصعبة في إستهداف السياسة النقدية للتضخم, وشرح الدور المهم للسياسة المالية في هذا الخصوص. المشكلة نلخصها في أن السياسة النقدية دائرة صغيرة داخل السياسة المالية الدائرة الأوسع والأشمل, والتي يقع عليها عبء إدارة الموارد بالشكل الأمثل, والغريب واللافت للنظر حتي قبل عملية الإصلاح الإقتصادي التي تمت في مصر مطلع التسعينيات, أن السياسة النقدية هي التي تقود الإصلاح, ويقع عليها العبء الكامل في تدبير الموارد لسد عجز الموازنة, وذلك لسبب وحيد أننا نتعامل بسياسات مالية' كسيحة' غير قادرة علي القيام بدورها, ويمكن لنا تقبل هذا بشكل مؤقت, ولكن من المستحيل تقبله بشكل دائم, لأن ذلك يضعنا أما فرضية خطيرة في أن تنهار قوة تحمل السياسة النقدية فجأة, فتقع البلاد في هوة سحيقة تتمثل في تضخم بلا حدود, وسعر صرف في الحضيض, وعجز موازنة ضيف دائم في غرف العناية المركزة. البداية مع الدكتورة ماجدة قنديل التي شرحت بالتفصيل ومن خلال دراسة علمية سياسات البنك المركزي في إدارة سعر الصرف وفي استهداف التضخم, وافترضت أن البنك المركزي قبل الثورة, قام بدعم سعر صرف الجنيه المرتفع عبر تكوين إحتياطي كبير من النقد الأجنبي, وأنه بعد الأزمة المالية العالمية ومؤشرات التعافي منها تخلي عن سياسته وأنهي موقفه المحايد وإتجه إلي بتخفيض سعر الصرف لدعم الصادرات وتحفيز النمو, وانه بعد ثورة25 يناير, والإنخفاض الكبير في الأصول الأجنبية, إنخفض سعر الصرف وعكست الزيادةفي صافي الأصول المحلية إرتفاعا حادا في صافي الإستحقاقات علي الحكومة, مع تباطوء الإئتمان المتاح للقطاع الخاص. وإنكماش الودائع بالعملة المحلية وزيادتها بالعملة الأجنبية, وتقلص السيولة في النظام المصرفي بالرغم من رفع أسعار الفائدة. واشارت إلي ما أسمته' هيمنة السياسة المالية علي السياسة النقدية' وشرحت ذلك بأن الحكومة إعتمدت مع مرور الوقت علي الإقتراض المحلي لتمويل عجز الموازنة مزاحمة للقطاع الخاص علي الموارد المالية المتاحة التي يمكن إستغلالها في تمويل النشاط الإقتصادي. وخلصت لاستمرار العجز في الموازنة العامة المتوقع أن يصل إلي10%, واستمرار إرتفاع أسعار الفائدة علي الإقتراض الحكومي الذي وصل الي17%. المتحدث التالي الدكتور محمود أبو العيون الذي أبدي تعاطفا مع كل من يدير في المرحلة الإنتقالية الصعبة, كما أكد حجم الضغوط الصعبة علي البنك المركزي, ولكنه طالب البنك المركزي بالغعلان بوضوح عن موعد إنتهاء المرحلة الغنتقالية حتي يتم تطبيقه الكامل لسياسة إستهداف التضخم, كما طالبه بتحديد معدل التضخم المستهدف لمحاسبته عليه, وسأل, من يحاسب البنك المركزي إذا فشل في تحقيق هدف التضخم المعلن. وانتقد استبعاد سلع مسعرة إداريا بالرغم من تأثيرها لوجود سعر سوقي لها مثل' أنبوبة البوتاجاز' و' الخبز'. وسأل عن الاسباب الحقيقية التي أدت إلي تخفيض البنك المركزي للإحتياطي الإلزامي لديه من14% إلي12%, كما إنتقد ان البنك المركزي ليس لاعبا في سوق إصدار السندات الحكومية, وأنه أوقف إصدار صكوك وشهادات المركزي مركزا علي أداة' الريبو' والتي قام يمقتضاها بعمليات أخيرة قيمتها22 مليار جنيه بفائدة9.75% في2 مايو الجاري. وانتقد أن يضم المجلس التنسيقي شخصيات مصرية تعمل خارج مصر مثل الدكتور محمد العريان والدكتور عبد الشكور شعلان, كما إنتقد ضمه لرئيسي بنوك الأهلي ومصر بما يصنع تضاربا في المصالح.( تم تصحيح ذلك بقرار المركزي إعادة تشكيل مجلس إدارته واستبعاد رؤساء البنوك والأفراد المرتبطة لتطبيق مبادئ الحوكمة, ومنع تضارب المصالح). وتساءل ونحن معه هل التمويل المقدم للحكومة إنمائي أم إستهلاكي؟ وسأل عن أسباب إنخفاض صافي الأصول الأجنبية لدي البنك المركزي وزيادتها لدي البنوك( يلمح لوجود دولرة). وقال أن البنك المركزي والحكومة يحاولان إستهداف التضخم ولكن عبر كبت الأسعار. وحول السياسة النقدية في المستقبل قال:' أشفق علي البنك المركزي وكل من يتولي منصب حكومي, فالدولة تعتقد أنها المهيمن الوحيد علي السياسة الإقتصادية, وهناك تباطوء في النمو الإقتصادي, وبطالة, وضغوط إجتماعية, وخلل في التوازن المالي, ودعم وأجور يرفعان عجز الموازنة, الذي يتم تمويله من مصادر داخلية فقط, إضافة إلي إنخفاض التصنيف الإئتماني لمصر وإنخفاض الثقة في الإقتصاد المصري. وقال أن البنك المركزي كان يمكنه معالجة الخلل في الميزان التجاري من خلال سعر الصرف ليدفع المستورد التكلفة الحقيقية علي وارداته. وقال أن ما كان يحمي الإستثمارات الأجنبية الوافدة النظام السابق, مطالبا بأن ينص الدستور المصري الجديد صراحة علي حماية الإستثمارات الوافدة لمصر من المصادرة أو التأميم بحيث تكون الثقة نابعة من الدستور والقوانين, وليس من نظام سياسي. وتوقع زيادة معدلات التضخم, وزيادة الدين الخارجي. جاء الدور علي رانيا المشاط وكيل محافظ البنك المركزي المساعد, والإقتصادي الأول بصندوق النقد الدولي, ووالأستاذ المساعد بالجامعة الامريكية بالقاهرة والتي واجهت موقفا صعبا يتمثل في ضيق الوقت, ولكنها أصرت علي توضح ما رغبت فيه من نقاط أولها أن معركة التضخم لا تبدأ ولا تنتهي بالبنك المركزي ولكن هناك سياسات مالية وتجارية واقتصادية تلعب دورا حاسما في معدلات التضخم. وطالبت بضرورة التنسيق بين جميع الأطراف في المجتمع الإقتصادي بأن يكون مكافحة التضخم هدف الجميع لإيجاد بيئة مواتية تحقق سيطرة أكبر علي التوقعات الخاصة بالتضخم. وأوضحت ان التجارب العالمية أوضحت بأن تخفيض عجز الموازنة إلي3% من الناتج المحلي الإجمالي تحقق سيطرة اكبر علي معدلات التضخم. وحول سؤال من يحدد الرقم المستهدف للتضخم الحكومة أم البنك المركزي أشارت إلي تاسيس المجلس التنسيقي بين الحكومة والركزي ليجتمع كل3 شهور ولكن أخر إجتماع له كان في سبتمبر2008 ؟؟ وأن الاكثر تفعيلا هو لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي التي تجتمع كل6 شهور. وتحدثت عن طبيعة التضخم في مصر, ودور صدمات العرض, وشرحت التضخم والتنافسية ومسار سعر الصرف الحقيقي والإسمي, والفجوة التجارية بين مصر وشركائها التجاريين وهيكل الواردات لتخلص إلي أن إستهداف التضخم هدف قومي في نهاية المطاف, وليس مسئولية البنك المركزي منفردا. وسأل الدكتور أحمد الدرش عن كيفية بقاء سعر الصرف ثابتا في مثل الظروف الحالية, فيما طالب الدكتور سمير رضوان بضرورة التنسيق بين الحكومة والبنك المركزي, وأوضحت الدكتورة سلوي العنتري رئيس قطاع البحوث السابق بالبنك الأهلي بأنه في حدود مسئولية البنك المركزي عن التضخم الأساسي نجد أنه يقع بين6 إلي8%, وهو ذات ما صرح به رئيس الوزراء عقب إجتماع اللجنة التنسيقية في سبتمبر2008 وهو ما يعني أن البنك المركزي نجح في إستهداف التضخم في إطار التضخم الأساسي. فيما أوضحت دينا خياط الخبيرة الإقتصادية أنه حتي لو إرتفع سعر الفائدة إلي17% فهو لا يزال سالبا وغير مشجع للإدخار او الإستثمار, بل هو مشجع فقط علي الإستهلاك. وأكدت عدم القدرة علي إجراء أي نوع من تخفيض سعر الصرف حاليا. حول كل ما أثير من نقاش أوضحت رانيا المشاط ما تردد عن تخفيض سعر الصرف قبل الثورة أن ما حدث ما بين بداية الثورة التونسية وحتي ثورة مصر شهد الإقتصاد المصري خروج لرؤوس أموال مستثمرة في أذون وسندات خزانة مصرية, مما أدي إلي الضغط علي العملة المحلية, أيضا هيكل الواردات المصرية يتسم بالأتي20:% سلع زراعية وغذائية, و40% سلع وسيطة( صناعية ورأسمالية) وبالتالي تقلبات حادة في سعر الصرف بدورها تؤدي لزيادة التضخم, علاوة علي الصدمات التي مصدرها غير نقدي والتي تؤدي لإرتفاع التضخم. وقالت أن ضعف التنافسية في مصر مصدره في الأساس إتساع فجوة التضخم بينها وبين شركاؤها التجاريون, وبالتالي حتي أستطيع زيادة تنافسيتي في السوق العالمية, لابد من العمل علي خفض معدلات التضخم. معركة التضخم لا تبدأ وتنتهي عند البنك المركزي ومصدرها غير نقدي, وبالتالي لابد وأن يكون هدف قومي تتكاتف حوله سياسات الإقتصاد الكلي بما فيها السياسة المالية والنقدية والتجارية, فضلا عن ذلك التنافسية تزيد ليس فقط بقيمة العملة ولكن بزيادة الإنتاجية, والإصلاحات الهيكلية, وجودة وتنافسية المنتج, والإتفاقيات التجارية, وتذليل العقبات التي تواجه الإنتاج المحلي. وأشارت إلي أن تخفيض قيمة الجنيه يستجلب لنا مدخلات تزيد التضخم. وخلال ال11 شهر الماضية, وهي فترة إدارة الأزمات, ما نجحنا فيه تحقيق استقرار أسواق النقد بالعملة المحلية والأجنبية, وتوفير السيولة المحلية بأليات تتسم بالشفافية من خلال عمليات إعادة الشراء' الريبو', وخفض الإحتياطي الإلزامي والتي تؤدي لزيادة سيولة دائمة, وتيسير أوضاع الإئتمان. أيضا هذه الأسواق عملت في مصر دون إنقطاع, وأدي كل ذلك إلي عدم إهتزاز ثقة المودع الذي لم تتأثر ثقته في العملة المحلية أو الجهاز المصرفي, فلم يحدث سحب للودائع بالعملة المحلية, علي العكس حتي المصريين العاملين في الخارج زادت تحويلاتهم للإقتصاد المصري, والدليل علي ذلك أن معدلات الدولرة لم ترتفع. وأشارت إلي أن الإحتياطيات الدولية تعكس الدورة الإقتصادية ومعاملاتنا مع العالم الخارجي, وكل بلدان الربيع العربي تأثرت سلبيا في الميزان الرأسمالي, والميزان الخدمي, و النقص في متحصلات السياحة أدي لي أن أصبح الميزان الرأسمالي والميزان الخدمي غير قادرين علي تلبية العجز في الميزان التجاري, مما أدي إلي إرتفاع العجز في ميزان المدفوعات. واضافت أن الدول الناشئة تقوم بزيادة إحتياطياتها الدولية في أوقات النمو الإقتصادي والظروف المواتية, لكي تستطيع التصدي للصدمات لإن الإحتياطيات تمثل خط الدفاع الأول, علي سبيل المثال وليس الحصر دول ناشئة أخري المكسيك والبرازيل عندما تعرضت لأزمات إقتصادية إنخفضت إحتياطياتها بشكل كبير, ولكن مع تعافي الإقتصاد تمكنتا من رفع إحتياطياتهما من النقد الأجنبي مرة أخري. ولفتت إلي أن الصدمة التي تعرض لها الإقتصاد المصري سياسية في الأصل, وليست إقتصادية, مما يعني عند إستقرار الوضع السياسي سيستطيع الإقتصاد التعافي بشكل سريع بما له من قدرات كامنة, خاصة وأن بنيته التحتيه لازالت قوية أيضا. إنتهت الندوة إلا أن القضية مهمة للغاية, وبحاجة لحوار جاد يحدد سبل النهوض بالبلاد, ويرسم سياسات رشيدة متوازنة, فكلنا علي السفينة, في عرض المحيط, يتخبطنا الموج من كل جانب, ونبحث عن' ربان' لن ينجح في قيادتنا إلا إذا خلصت النوايا وإجتمعنا علي هدف واحد وهو' مصر' الوطن, والبيت, والمستقبل, والمصير.