عشت مع كلماته طوال الأيام القليلة الماضية..كانت كالبلسم الذي يطيب الجروح ويسكن الآلام, ويجعلنا ننسي ولو لبعض الوقت هذه الأحداث الساخنة المؤلمة والحزينة التي يعانيها الوطن. صارت قصصه القصيرة التي كنت برفقتها طوق نجاة ألوذ به بعيدا عن نشرات الأخبار, والبرامج الحوارية التي تتربص بنا صباحا ومساء. إنه الكاتب الأمريكي العظيم أرنست همنجواي(1899 1961) صاحب الأعمال الإبداعية العديدة التي تركت خلفها بصمة مميزة في عالم الأدب: وداعا للسلاح, تشرق الشمس ثانية, رجال بلا نساء, الطابور الخامس, لمن تدق الأجراس, موت في الأصيل, فضلا عن رائعته الشهيرة العجوز والبحر, هذه الرواية البديعة التي تحتل مكانة خاصة في القلب, فهي تحمل معها معاني ولفتات إنسانية عذبة, وتفاصيل صغيرة دقيقة برع الكاتب بحق في أن يسردها في سياق روايته. والمجموعة القصصية التي بين أيدينا اليوم, صدرت تحت عنوان الفراشة الدبابة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب, ترجمة وتقديم ماهر البطوطي, الذي يقدم فيها مجموعة منتقاة من قصص همنجواي, بعض منها ينشر لأول مرة باللغة العربية حسب كلماته في مقدمة الكتاب. نعيش إذن مع همنجواي في رحاب عالم متنوع وفسيح, عالم يموج بالحركة والتجارب الإنسانية, والمشاعر والعواطف المتدفقة التي ينقلها الكاتب بقلمه الذي يتصف بالإيجاز والوضوح. وكما يزن الجواهرجي أحجاره الكريمة النفيسة, يزن همنجواي هو الآخر كلماته وعباراته, لا كلمة زيادة أو ناقصة هنا, بل متن محكم جيدا, يعرض عبره تجربة إنسانية عايشها, وواكب تفاصيلها الصغيرة والكبيرة علي السواء, ومن هنا تحديدا ترجع قوة كلماته القليلة الموجزة... همنجواي من ذلك النوع من المبدعين الذي لا يكاد يبرحك أو يغادرك حينما تفرغ من قراءة رواياته وقصصه, إذ تبقي المعاني والتجارب الإنسانية التي عرض إليها في النفس. تتأملها, وتعيد قراءتها المرة بعد الأخري, وفي كل مرة تكتشف أفقا جديدا ما كنت تفكر فيه قبلا, وأحسب أن هذه هي عظمة الكاتب والمبدع. هذه الكتابات تمس القلب, وتترك علي سطحه علامات من الصعب حقا أن تنال منها يد الزمان الغادرة. وتعود عظمة همنجواي أيضا إلي أن آفاق إبداعاته رحبة وواسعة, تضم في ثناياها بلدانا عديدة من العالم. وقع في عشق إسبانيا, وتعاطف مع أهلها وناسها لدرجة أنه شارك في الحرب الأهلية التي نشبت هناك لمدة ثلاثة أعوام, وكتب كتابه الشهير موت في الأصيل الذي يعد بمثابة دراسة مستفيضة عن مصارعة الثيران. أحب إفريقيا, ونقل خصوصية عالمها الفريد, بطبيعته المتوحشة, ومفرداته الخاصة عبر قصتين تضمهما المجموعة ثلوج كليمنجارو, و قصة إفريقية. وهناك كذلك قصة المخيم الهندي و عشرة هنود, ولمحات حياتية دافقة للهنود يقدمها همنجواي عبر كلمات سلسة وحوار سريع شيق: لم ينظر كاتبنا قط أسفل قدميه.. جاب أرجاء الدنيا.. زار بلدان العالم.. كتب عن أهل المشرق والمغرب معا.. فالإبداع لديه لا يعرف وطنا.. يعني همنجواي كثيرا في كتاباته بالتفاصيل الصغيرة التي نصادفها في حياتنا اليومية, ويهتم بأن ينقل لنا مشاعره وإحساساته تجاه الحدث الذي يعرض له, تاركا مساحة خاصة للقارئ تسمح له بالخيال, وربما أيضا باستكمال أحداث القصة علي طريقته, ووفق رؤيته. فالقصة القصيرة لديه كما يقول مترجم الكتاب تشبه جبل الثلج العائم, الذي لا يظهر للعيان منه سوي ثمن حجمه فقط, فهي تقدم الجزء الظاهر فحسب, وتترك للقارئ تشرب البقية وفقا لإحساساته, ودرجة تجاربه في الحياة.