تزوجت فى شبابى برجل فاضل، وانجبت منه بنتين، ومرت الأيام سريعا كقطار نفاث ليست له محطات كثيرة, ولا يتوقف فى كل محطة إلا برهة من الزمن ينطلق بعدها سريعا, وأخذ يحادثنى صوت من حين إلى آخر، ويوسوس لى بأن القطار على وشك الوصول إلى المحطة الأخيرة, وسيخرج بعدها من الخدمة وكل آماله أن يصل بركابه فى أمان عسى أن يذكروه بالحسنى بعد أن يصبح ذكرى بدلا من أن يظل حقيقة مزيفة وعديمة الفائدة. فلقد توفى زوجى وتزوجت ابنتى الكبرى من رجل فاضل ومكافح واصبحت جدة لأربعة أبناء, وحلمت وهم يلعبون حولى أن اراهم موفقين فى حياتهم، وقد اعتلوا أرفع المناصب وأصبح لديهم من العلم والمال الكثير، ولم يمر وقت طويل حتى خطبت ابنتى الثانية, وأنظر إلى نفسى فأجدنى قد كبرت فى السن, وهاجمتنى امراض الشيخوخة وخشونة المفاصل والقرح التى تغزو كل شبر فى الجسد، وهذا أمر هين بالنسبة لى، لكننا فوجئنا بما لم يكن فى الحسبان حيث مرض زوج إبنتى الكبرى مرضا شديدا جعله اسير المستشفيات، وكنت فى كل زيارة أدعو له بالشفاء العاجل وأن اراه معافا من أمراضه، وسرعان ما تدهورت حالته، وغادر الحياة تاركا وراءه زوجته وأبناءه, وأصبح معاش زوجى لا يكفى طلبات الفريق الموجود فى المنزل, فنزل الجميع إلى العمل حيث أعمل أنا وابنتى الكبرى فى البيوت نهارا، بينما تجلس ابنتى الثانية مع الأبناء لرعايتهم ونعود فى الثلث الأخير من اليوم منهكى القوى ونستسلم للنوم, وقد ظللنا على هذه الحالة حتى هدنى المرض, وتبادلت المهام مع ابنتى الصغري, التى حللت مكانها فى رعاية الأطفال وخرجت هى للعمل مع شقيقتها. وأصدقك القول أن لسانى لم يكف عن الدعاء والابتهال إلى الله بأن تتحسن الاحوال للأفضل وأن تعيش ابنتاى فى استقرار, وعندما تقدم شاب الى ابنتى الصغرى ورأيت فى عينيهما الرغبة فى الارتباط رحت أفكر فى احوالنا وكيف سندبر تكاليف زواجها, حيث هاجم المرض ابنتى الكبرى بضراوة، ولم يجد ادنى مقاومة من جسدها الهزيل الذى اصبح كالجدار الذى سقطت قوالب الطوب منه فأصبح ممزقا وصار أبناؤها يتامى الأبوين وانتقلت إلىّ مسئولية توفير مطالبهم واحتياجاتهم اليومية، وتحملت ابنتى المسئولية عنى بشجاعة، وهاهى على وشك الزفاف.. إن الأيام الباقية من عمرى معدودة بعد أن تخطيت سن السبعين، وكل أملى أن يكتب الله التوفيق لابنتى وأحفادى، فأرجوك وقراءك الدعاء لهم. ولكاتبة هذه الرسالة أقول: يقول الحق تبارك وتعالى فى كتابه الكريم "ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات, وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون"، فما تعرضت له هو ابتلاء من المولى عز وجل, وقد صبرت عليه وأصبح من حقك ان تنالى البشرى التى بشر الله بها عباده الصابرين مصداقا لقوله: "إنما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب" , وجاء فى الحديث الشريف عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه ان النبى صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالي: ما لعبدى المؤمن عندى جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة" رواه البخاري. فاستسلمى لله عز وجل فيما ذهب واشكريه على ما وهب, وتوجهى إليه بالدعاء ان يخفف عنكم البلاء وان يرزقكم بما يحفظ لكم وجودكم ويستركم فى الدنيا والآخرة. وأقول لابنتك الصغري: لقد أثبت وانت فى سنوات شبابك الأولى انك جديرة بتحمل المسئولية وان تكونى زوجة صالحة، وأما قادرة على مواجهة الأنواء وسوف يسعد بك زوجك ويجد فيك كل ما يحلم به من قيم وصفات جميلة, فالمال وحده لا يصنع السعادة وإنما تبنيها الإرادة والعزيمة والرضا بما قدره الله سبحانه وتعالى.