نعم تعلق قلبى على باب غرفة الرعاية المركزة رقم 202 بمستشفى الكاتب أمام سرير ترقد عليه أغلى الناس: ست الحبايب.. خراطيم وأجهزة تتصل بجسدها الهزيل تعنى بالنسبة لى شرايينى التى تمدنى بالحياة.. عيناى لا تفارقان الجهاز المعلق أعلى سريرها, أقبل قدميها عشرات المرات فتتسلل إلى رائحة الجنة, تماما كما وعد الرحمن.. عقارب الساعة عندى توقفت عند فجر الجمعة 22 يناير, وبالتحديد عند مدخل الطوارئ بالمستشفى.. لا أرى فى الوجود كله سواها. لم أفكر يوما فى الاتصال بابنى وهو فى الغربة, لا أتذكر أخر مرة ذهبت فيها إلى الأهرام, ابنتى أضيف 20 عاما الى رصيد عمرها الحقيقي, أصيبت حياتى بالشلل التام ..وكيف لا؟ وهى دنيا أملى ,هى دنياى.. مزيج من الشرود والأمل واليأس.. الدموع هى سيدة الموقف, نبضات قلبى تحولت الى توسلات للمولى عز وجل أن يحييها ويحيينى معها وهو الأعلى والأعلم أننى بدونها كائن هش لا حول له ولا قوة.. أمام سريرها أدركت حقيقة, وصار فى قلبى يقين لا يقبل الشك أننى لم يتم فطامى بعد.. دفؤها وكلماتها وأحضانها جرعات رضاعة طبيعية لى أستمدها يوميا مع المكالمة الصباحية التى أستهل بها يومى ..«ما تتكلميش وانتى سايقة» «أول ما توصلى الأهرام طمنينى» «ربنا يسلم طريقك يا حبيبتى».. صدرها مستودع أسرارى. كل كبيرة وصغيرة أخزنها فى ذاكرتى لكى أحكيها لها فى أول اتصال تليفونى.. كلانا أجندة يومية مفتوحة أمام الآخر.. مؤخرا أحسستها ابنتى وليست أمي؛ بل هى كائن تركت له حرية الاختيار أن يسكن بين ضلوعى أوأن يسرى مع قطرات دمى فاختارت كليهما.. هى نقطة الارتكازالتى منها أنطلق واليها أعود.. هى قبلتى التى تحج إليها روحى وكيانى كله وتطوف حولها فى كل ثانية.. منذ ساعات قليلة كان عيدك الذى كنت تسبقينه بتعليمات محددة لى ولأسرتى الصغيرة «ما تتعبوش نفسكم، كفاية إنكم حواليا، ما تشتروش حاجة علشان خاطرى».. ودائما كنا نعصى الأوامر ونخالفها.. وها أنا الآن فى أول عيد لك بعد فراقك أنفذ تعليماتك للمرة الأولى.. نعم سأنفذ, صاغرة للأمر الإلهى الذى لا راد له, فقط أريد أن أصف لك حالى: أعيش أياما لا أعرف ملامحها، فانا الآن مجموعة قطع زجاجية متناثرة يحاول الآخرون ترميمها, ولكنها تنهار وتتناثر مع كل إطلالة شمس يوم جديد يتأكد لى فيه أننى بعيدة عن حضنك. هى نعمة من الله عز وجل أن يمن على المرء بأب وأم تجاوزا حدود المثالية إلى مرتبة ملاكى الرحمة اللذين يحلقان فوق ابنتيهما الوحيدة.. ولكن هذه النعمة فى الوقت ذاته تحمل أشد معانى القسوة التى كنت معها أتمنى ألا يكونا بهذه الدرجة من العطاء والايثار والسمو..لأننى الآن أشعربمعنى البتر: أن يبتر عضوان من جسدى وليس مجرد رحيل أب وأم.. كلاهما كان- وما أصعب كلمة كان- منحة من القدر؛ لم يكن ذلك عطاء بل كان فيضا ليس له سقف ولا نهاية سعدت به معهما, والآن يحاصرنى فى كل مكان ومع كل لمحة بصر.. كيف لا؟ وقد كانت مجرد اشارتى ولو بالعين الى رغبة ما تتحول الى أمر مباشر واجب التنفيذ؟ رسم القدر لى نوعين من الفراق كلاهما مر.. فراق أبي- منذ ست سنوات- كان مفاجأة دمرت جهازى المناعى تماما.. والآن يأتى الفراق رفيقا بى؛ سبقته خمسة أسابيع أشفقت خلالها على الغالية من الآهات.. لعلها المرة الأولى التى يكون لقاؤهما معا بدونى أنا ثالثتهما.. يااه يا أغلى الناس ويا أطهر القلوب, هل تهنآن معا بدوني؟ مرارة الفراق تمحو طعم الدنيا وكل الطقوس.. أين رمضان والأعياد؟ وأين عيدك يا أمى؟ ملايين البشر إن اجتمعوا حولى سأظل أبحث فى وجوههم عن وجهين فقط.. ادعوا لى أن أكون الابنة البارة التى تستحقكما وأنا على العهد مادام فى عمرى أيام.. دعاؤكما مستجاب؛ فأنتما فى رحاب مليك مقتدر.. يا رب!