ذات يوم اصطحبته أمه لزيارة قريتها, كانت تعتزم بيع منزل والديها عقب موتهما. وما أن وصلا إلي القرية, حتي انبعث في ذهن الفتي فيض من ذكريات طفولته. فقد أمضي في أحضان جدته السنوات التسع الأولي من طفولته. وأثلجت قلبه وأنعشت خياله بحكاياتها عن الخرافات والأساطير. أما الجد فكان يروي له وقائع من الحرب الأهلية في بلاده كولومبيا, وهي حرب الألف يوم التي ازدادت اشتعالا, في مستهل القرن العشرين. بين القوي المحافظة والرجعية وقوي الحرية والتقدم. وعندئذ ألحت علي الفتي فكرة أن يكتب عن حكايات الجدة والجد, ويؤكد الروائي جارسيا ماركيز الفائز بجائزة نوبل للأدب عام 1982 أن تلك الزيارة ألهمته وحرضته علي الابحار في نهر الواقعية السحرية, حيث يمتزج الواقع بالاساطير. ومن ثم تصبح الروايات بديعة وفاتنه. وموحية كذلك. وكان هذا ما تجلي عندما نشر روايته الكولونيل لا يجد من يكاتبه عام. 1957 وكان في نحو الثلاثين من عمره. ودوت شهرته عام 1967 عندما أصدر روايته مائة عام من العزلة. غير أن شهرة ماركيز لم تخفف وطأة غضبه علي الأوضاع البائسة في كولومبيا وبلدان امريكا اللاتينية. وكانت مستنقعا لأشد الطغاة بأسا, واكثرهم فسادا واستبدادا. وهو ما دفع كوكبة الروائيين العظام في القارة اللاتينية إلي الكتابة عن الديكتاتورية. وكانت أولي ابداعاتهم رواية سيدي الرئيس, التي نشرها عام 1946 كاتب جوانتيمالا ميجل استورباس. غير أن جارسيا ماركيز أذهل الجميع عندما نشر عام 1975 تحفته الروائية خريف البطريرك وكشف فيها العالم السري للطاغية. وهو عالم من الكوابيس الخانقة للحرية والديمقراطية والعدل الاجتماعي. لكن الطاغية يموت. ويصبح الظن انه لم يعد ممكنا ظهور أمثاله. وكانت امريكا اللاتينية ومعظم دول آسيا وافريقيا قد أسقطت حكم الطغاة. وبدت النهاية السعيدة رائعة في أوروبا الشرقية ابان الثورات الديمقراطية عام .1989 فقد تقوضت النظم الشمولية والشيوعية. كما انهار الاتحاد السوفيتي ونظامه الشمولي عام.1991 ومزقت روسيا عباءة الاتحاد, وعادت الي سيرتها الأولي. وصار بوريس يلتسين رئيسا. لكنه كان أهوج وسكيرا, وعمت الفوضي. وعندما ألم به الوهن والمرض بات يخشي من امكان محاكمته لسوء ادارته. وفي تلك اللحظة المفعمة بالقلق, طفا علي سطح الأحداث ضابط سابق في المخابرات السوفيتية المنحلة. وعقد مع فريق يلتسين صفقة.. ان يصبح رئيسا مقابل خروجهم الآمن من السلطة. وأصبح فلاديمير بوتين رئيسا في انتخابات عام.2000 وصور بوتين نفسه علي انه الرجل القوي القادر علي انقاذ البلاد من الفوضي.. وتمكن من استعادة الأمن. وحالفه الحظ عندما زادت عائدات البترول.. وحقق تقدما اقتصاديا. لكنه أضحي مولعا بالسلطة. وعندما انتهت فترتا رئاسته عام 2008, ابتدع أغرب نظام لتبادل السلطة. فقد سمح لصديقه ميديديف بأن يصبح رئيسا لفترة واحدة, علي أن يصبح هو رئيسا للوزراء. وعندما حانت انتخابات 2012 عاد بوتين الي عرش الكرملين, علي ان يصبح صديقه رئيسا للوزراء! يقول الراوي: لست علي يقين من أن بوتين استعار هذه الفكرة الشيطانية للتبادل الوهمي للسلطة من الجنرال تروخيللو الطاغية الذي هيمن علي جوانتيمالا بأمريكا اللاتينية منذ انقلاب 1930 وحتي اغتياله .1961 ففي انتخابات رئاسية دفع الجنرال بطبيبه الخاص ليكون رئيسا. لكنه قبع في مكتبه بقصر الرئاسة. وتولي ادارة شئون البلاد. ولست أدري ما إذا كان جارسيا ماركيز, عندما أتاه نبأ عودة بوتين إلي الكرملين, قد ندم علي قوله لحظة فوزه بجائزة نوبل.. ان حلمه كان منذ زمن أن يظهر اسمه في الموسوعة السوفيتية. انها الموسوعة البائسة التي أضاف اليها بوتين فصلا عن التبادل الوهمي للسلطة. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي