عطر التفاؤل كان يغمر المكان, بينما شمس الأمل تضيء الزمان.. واعتلي شاب طويل منصة مؤتمر إفريقي في أكرا عاصمة غانا عام.1958 وخاطب الزعماء والرؤساء بقول رائع, وان كان غير معتاد.. أيها الاخوة الأعزاء في النضال.. الأعزاء في الفقر.. ثم طرح بياتريس لومومبا زعيم حركة التحرر الوطني في الكونغو رؤيته للنهوض بافريقيا التي كانت بلدانها تتأهب لكسر أغلال الاستعمار. لكن الأخوة الأعزاء, عندما حانت اللحظة الحاسمة, لم يتحركوا بما يكفي لانقاذ لومومبا. وكانت بلاده قد تحررت من الاستعمار البلجيكي عام1960, وصار رئيسا للوزراء. غير أنه لم يبق في منصبه طويلا. فقد دبر الكولونيل موبوتو انقلابا عسكريا, واعتقلوا لومومبا, وعذبوه, واغتالوه في يناير.1961وصار أول شهيد للوحدة الافريقية المنشودة, علي حد تعبير الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر, الذي كتب عنه دراسة رائعة. وباغتيال لومومبا, انطفأ قنديل الحرية. وسادت الظلمات درب التنمية. وعربد الطغاة في الطرقات, ابان الحرب الباردة والصراع الاستراتيجي بين أمريكا والاتحاد السوفيتي علي مناطق النفوذ في افريقيا. وغرقت القارة طوال عقود بائسة في مستنقعات الانقلابات والحروب الأهلية والعرقية. ظاهرة الطغاة الذين تقافزوا بهراواتهم الغليظة في ساحات العالم الثالث كانت تقافزا علي حقيقة صادمة ومروعة. ذلك أن حركات التحرر الوطني كانت تستهدف تحقيق الاستقلال والحرية والتنمية. لكن الطغاة الذين أفرختهم الانقلابات العسكرية في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية نشبوا مخالب مصالحهم الشخصية في أحلام المواطنين, واستنزفوا ثروات الوطن. واثخنوه بالجراح. وظل الطغاة سادرين في غيهم, حتي تغير المشهد العالمي, بثورات الديمقراطية في أوروبا الشرقية, وانهيار الاتحاد السوفيتي ونظامه الشمولي. وبدأت اشراقات الديمقراطية في أمريكا اللاتينية. ولعل السنوات الثماني لحكم دي لولا, النقابي واليساري, التي انتشلت البرازيل من هوة التخلف ودفعتها علي طريق التقدم, مثالا جميلا. لكن المثير إلي حد السخط والغضب أن المنطقة العربية ظلت عصية, بسبب شراسة الطغاة فيها, علي اللحاق بركب الديمقراطية والعدالة. وبرغم صلفهم وجبروتهم, بدأ انفراط عقدهم علي نحو مفاجئ, بهروب بن علي وزوجته ليلي إلي السعودية عندما انفجرت الثورة التونسية. ثم أسقطت ثورة25 يناير المصرية نظام مبارك في خلال ثمانية عشر يوما. أما ثورة17فبراير الليبية فلا تزال تخوض معارك ضارية ضد القذافي عميد الطغاة العرب وملك ملوك افريقيا. ويتبوأ القذافي مكان الصدارة في القائمة السوداء للطغاة.. فقد استبد بليبيا لمدة اثنين وأربعين عاما. وادعي انه ليس حاكما أو رئيسا. وبدا مذهولا ومضطربا عندما طالبه الثوار بالرحيل.. وقال: ليس لي منصب استقيل منه! وكأنه صار الوطن.. وأصبح الشعب قوة أجنبية يجب قتالها وقتلها كما تقتل الجرزان. هكذا يتصرف الطغاة. وكان الظن أن الروائيين المبدعين في أمريكا اللاتينية, ومنهم جارسيا ماركيز, الفائز بجائزة نوبل, قد برعوا في تجسيد شخصية الطاغية وعالمه السري المعتم والمظلم. لكن لم يخطر ببالهم أن يخوض الطغاة في ثلاث دول عربية حروبا ضارية ضد شعوبهم. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي