أثار الأستاذ يحيي الإبراشي في رسالته السبت الماضي بعنوان الزفاف الأسطوري مسألة الإسراف المبالغ فيه عند إقامة الأفراح. وللأسف الشديد فإنها أحد بنود ثقافة التباهي والتكاثر التي سادت مجتمعنا في الأعوام الثلاثين الأخيرة, بعد سياسة الانفتاح بالتحديد, عندما انسحب علي خجل التباهي بالعلم والأخلاق ليترك الساحة بلا منازع للتباهي بالمال والعقار وبكل ما هو زائل, حتي خيل للجميع أن الأصل هو ما تملك, والاستثناء هو ما تعلم, وأن المادة هي الباقية, والأعمال الصالحة إلي فناء. لقد أفقدنا الانبهار بما يفعله المال الصواب فأصبحنا لا نتباهي إلا به, فنقيم الأفراح باذخة التكاليف, ونرجو بها وجه المعارف وشخصيات المجتمع, مع أن الأصل في ولائم الأفراح هو ابتغاء وجه الله بدعوة الفقراء والمساكين للطعام لإسعادهم لعل الله يسعد العروسين, ونقتني القصور والشاليهات التي لا نزورها إلا أياما معدودات في العام, بينما ينام غيرنا تحت الكباري, وبين القبور, وفي عشش تحت سفح المقطم مهددين علي الدوام بالدفن تحت سخرة ستسقط لا محالة يوما ما, ونركب السيارات الفارهة لنتنقل بها بين ما نملك في مساحة لا تتعدي الكيلومترات, بينما تؤدي سيارة صغيرة زهيدة السعر الغرض نفسه لتترك لنا باقي الثمن نسد به جوعة جوعان, أو نعالج به مريضا لا يقدر علي شراء الدواء. وإذا جاءنا من هو علي دين وعلم وخق لم نزوجه حتي نقف علي ما يملك, فإن كان له مال وحسب ونسب ولو كان جاهلا زوجناه, وإن لم يكن لديه غير العلم والأخلاق قلنا له الباب يفوت جمل؟, زد علي ذلك تباهينا بعائلاتنا وعدد أفرادها وما يملكون وما يشغلون من مناصب, ولا يقتصر التباهي والتفاخر علي هذا فحسب, بل يمتد إلي القدرة علي الإسراف في مظاهر كلها زائلة بينما تنقبض أيادينا عند أعمال البر كتجهيز قريبة فقيرة لا تقدر علي شراء أساسيات حجرة الزوجية, أو مساعدة طالب مجتهد لا يجد المال لاستكمال تعليمه الجامعي. إنها ثقافة جاهلية في الأصل حاربها الإسلام الحنيف, حتي إن هناك سورة في القرآن الكريم اسمها التكاثر نزلت كما جاء في تفسير ابن كثير في قبيلتين من قبائل الأنصار, هما بني حارثة وبني الحارث, حيث تفاخرتا وقالت إحداهما للأخري فيكم مثل فلان بن فلان, وفلان؟ وقال الآخرون مثل ذلك, تفاخروا بالأحياء, ثم قالوا: انطلقوا بنا إلي القبور, فجعلت إحدي الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان؟ يشيرون إلي القبر ومثل فلان؟ وفعل الآخرون مثل ذلك, فأنزل الله: ألهاكم التكاثر حتي زرتم المقابر, ويذكر التاريخ لأبي بكر الصديق (رضي الله عنه) بكاءه عندما شرب شربة ماء بارد ثم رفع الإناء وهو يقول: ثم لتسألن يومئذ عن النعيم, وهي الآية الأخيرة في سورة التكاثر, فقد اعتبر برودة الماء لا لحوم الطاووس في الأفراح من النعيم الذي سيسأله الله عنه, فلو حسن فقهنا لعلمنا أن ما بين أيدينا سنسأل عنه يوم الدين من أين اكتسبناه؟ وفيما أنفقناه؟ وأن الوحيد الذي سيبقي معنا بعد نزولنا القبر هو العمل, أما الأموال والأولاد والحسب والنسب فكلها سوف تتخلي عنا وتتركنا وترجع حيث التنازع والتنابز والتكاثر إلا من رحم ربي! {{ تلقيت هذه الرسالة من الدكتور سمير محمد البهواشي, وإني أتساءل معه: هل يدرك أصحاب المليارات أن أمامهم فرصة ذهبية للتجارة مع الله بإغاثة الملهوفين, ومساعدة المحتاجين,.. إن هذا أجدي كثيرا وأنفع لهم في الآخرة من مظاهر الدنيا الكاذبة.