لماذا تعد مصر أكثر فقرًا، وبدرجة كبيرة عن الولاياتالمتحدة؟ و أي قيود تمنع المصريين من أن يصبحوا أكثر رخاءً وغنى؟ السؤال طرحته مقدمة كتاب (لماذا تفشل الأمم: أصول السلطة، والازدهار، والفقر)، الصادر عام 2012 من تأليف الأمريكي- التركي دارن أسيموغلو، والأمريكي جيمس روبنسون، حيث تستطرد مقدمة الكتاب رصدًا لحالة الثوار المصريين في ميدان التحرير، تحديدًا لمطالبهم، وللعقبات المضادة لمسيرتهم الاجتماعية والاقتصادية، التي تبدت لهم بالأساس وليدة طغيان منهج الممارسة الاحتكارية للسلطة السياسية، من نخبة محدودة استحوذت وحدها علي الساحة، وهو أمر حانت لحظة انزياحه. لكن مقدمة الكتاب تكشف أيضًا أن المتظاهرين في ميدان التحرير، قد اختلفوا- اختلافًا حادًا- في تحديد السبب الذي يتصدى بالمرصاد لاستبقاء مصر أكثر فقرًا؛ إذ يرى البعض أن مصر قيد وضع جغرافي لا يحمل أي جواب مرتقب وواعد بالتنمية، وبعض آخر يؤكد أنها أسيرة إرث ثقافي كابح للازدهار. هل يعني ذلك أن ثمة مواجهة جغرافية وثقافية معادية لتحقيق التنمية والازدهار الاقتصادي لمصر؟ لكن المقدمة تشير إلى أن هناك آخرين من ثوار التحرير، انفتح وعيهم على حقيقة مفادها أن فقر مصر نتيجة خضوعها لحكم نخبة ضيقة، راحت تصوغ هيكل المجتمع بما يتلاءم مع مصالحها الخاصة، تكوينًا واستحواذًا لثروات طائلة خصمًا من حقوق الأغلبية الساحقة للشعب، ويرى الكاتبان أنها الفكرة الصائبة. صحيح أن في المقدمة يتبدى احتفاء مؤلفي الكتاب بثورة يناير المصرية، وصحيح أيضًا أن الموقف السلبي منهما تجاه الثورات المصرية السابقة في شرطها التاريخي، يبدد نضال الشعب المصري ويصعق إنجازاته، لكن الصحيح كذلك أنهما قد أقرا التبني للفكرة الصحيحة والصائبة، التي يعتنقها بعض المصريين الموجودين في ميدان التحرير، وسيحاولان أن يقدما تفسيرًا عامًا لتجليات السبب الذي يجعل البلدان الفقيرة، تظل على هذه الحالة من الفقر، الذي هو السبب نفسه الذي يجعل مصر دولة فقيرة، إذ يؤكدان أن التحول أو التغيير السياسي، هو الرهان الحقيقي لمجتمع فقير حتى يصبح غنيًا. إننا لا نستطيع قراءة الكتاب بعيدًا عن استدعاء المقولة التي مفادها أن الفشل الاقتصادي يعد المعبر إلى العبودية في عالمنا القادم؛ حيث يؤكد الكتاب أن قطبي التقدم اللذين يؤسسان معًا ثنائية فاعلة في مساره، يجسدهما نوعان من المؤسسات هما: المؤسسات الاقتصادية الشاملة، وأيضًا المؤسسات السياسية الشاملة، بوصفهما مكتملتين واكتماليتين، إذ تلقى وتدعم كل منهما الأخرى، وأن هذا التمفصل بينهما يستهدف تكريس عملهما لحماية المجتمع من الفشل اقتصاديًا وسياسيًا؛ لذا ينخرط الكتاب عارضًا وقائع تتراص أو تنفرط، في خارطة غاصة بالخبرات التاريخية المتعددة، من الإمبراطورية الرومانية قديمًا حتى الزمن المعاصر، عدا العالم العربي باستثناء مصر، طارحًا نموذجه التفسيري الذي يكشف من خلاله أسباب فشل الأمم أو نجاحها، في سياق يرصد تعظيمًا أو خفضًا لعقيدة التقدم والازدهار، التي هي من صنع الإنسان، إذ تبرهن فعالية عقيدة التقدم على الإنعتاق من أسر الجغرافيا أو الثقافة؛ لأنهما ليسا- كما يعتقد البعض- تفسيرًا لتفاوتات اقتصاديات الأمم، مؤكدًا أن المؤسسات السياسية والاقتصادية هي أساس النجاح الاقتصادي، استنادًا إلى أن البشر يملكون سلطة إلغاء كل أشكال الفقر والتخلص من أغلاله، ومواجهة الأقلية المسيطرة المستبدة المحتكرة، المعادية لحقوق الأغلبية ومستقبلها، وتحديدًا عندما يسكن ذلك التوجه إرادة عامة، تستهدف الثورات والتحولات الاجتماعية الاقتصادية. ولأن هذه المؤسسات تحكمها عقيدة مسار التقدم، كي لا تفشل المجتمعات اقتصاديًا وسياسيًا فتصبح الأغلبية الساحقة من الناس محشورة في مضيق العوز؛ لذلك لا بد من الوعي بدور هذه المؤسسات، والإقرار بمشروعيتها المطلقة بعيدًا عن أي إقصاء، بوصفها مؤسسات للضبط الاجتماعي، حيث تتولى المؤسسات الاقتصادية الفعالة الشاملة، مهام ترسيخ العدل الاجتماعي، وتعزيز الملكية، وحماية الموارد من سيطرة الأقلية، وتنمية المهارات اللازمة لتحقيق التنمية الاقتصادية، وتشجيع الاستثمار في التكنولوجيا، وأيضًا في إطار ذلك التمفصل تتولى المؤسسات السياسية الفعالة والشاملة توزيع السلطة السياسية وفق توازن ديمقراطي، يحقق تعددية واسعة تتأسس علي الحوار، والتعايش، والتقدم، مع ضرورة تأمين اقتدارها على ممارسة السلطة المركزية بدلالاتها، في الحفاظ على النظام العام واستتبابه، والحفاظ على القانون وفعاليته، بوصفهما الضمانة الحقيقية لحماية الديمقراطية، والحريات، والتقدم، وحقوق الملكية، والاقتصاد، والتنمية. يطرح الكتاب مقارنات لأوضاع عالمية، عبر تاريخ طويل كساحة مفتوحة لثنائية المؤسسات الحاضنة، المنتجة للتقدم، والمؤسسات الإقصائية، المنتجة للفقر والتخلف، نشير إلي نموذجين منها، أولهما: نموذج المؤسسات الإقصائية، إذ بعد احتلال الإمبراطورية الأسبانية جنوب القارة الأمريكية، أحالت مؤسساتها الاقتصادية السكان الأصليين إلي ما يشبه العبيد، واستنزفت الكثير من الموارد لصالحها، وحالت دون تطور السكان، وأسهمت في تخلفهم. ثانيهما: تجربة المستوطنين في شمال أمريكا، التي منحت لهم المؤسسات الاقتصادية أراضي شاسعة لاستثمارها؛ تنمية للفرد، وإطلاقًا لطاقاته، وتعزيزًا لمثابرته، وهي ما يصنفها الكتاب كمؤسسات حاضنة، كما يحذر المؤلفان من ظاهرة الردة الديمقراطية، والنخب الجامدة، إذ يستعيران من الديمقراطية الحقيقية ونخبها، ما لا تملكانه ذاتيًا، و غير المؤهلين لامتلاكه، استهدافًا للوصول إلي السلطة، ثم تتبدى بعد ذلك الصورة المقلوبة المعاكسة. صحيح أن المؤلفين انتقدا الأوضاع الحالية للولايات المتحدة، بشأن استمرار اتساع الفجوة ما بين الأغنياء والفقراء، وتآكل الطبقة الوسطى، نتيجة تراكم مؤثرات تهدد مؤسسات الولاياتالمتحدة، لكن الصحيح أيضًا أنهما لم يطرحا حقيقة أن هناك ثلاثين مليونًا من مواطنيها يعيشون تحت خط الفقر، مع أنها أغنى بلد في العالم، والصحيح كذلك أنهما لم يتساءلا عن التكلفة الإنسانية الباهظة لمشروع وجود الولاياتالمتحدة، المرتبط بالعنف المطلق والإقصاء، الذي بدأ بالإبادة الوحشية الشرسة لشعب الهنود الحمر بأسره، والاستيلاء علي أراضيه، ثم استعباد الأفارقة والاتجار بهم، وأيضًا زحفها المتواصل علي أوطان جيرانها، وغيرها من امتدادات تجريفاتها المستمرة حتى زمننا المعاصر، للمفاهيم، والقيم الإنسانية، وحقوق الشعوب والأوطان، والتي يتم الغدر بها عيانًا وجهارًا؛ إذ ما يقلق مؤلفا الكتاب أن مصر (صادرت الاستثمارات الأجنبية مثل قناة السويس، التي أخذت بريطانيا حق انتفاعها)، ترى هل كانت بريطانيا حاضنة للشعب المصري؟ إننا نؤكد أن جناحي الحرية لأي مجتمع هما: المعرفة، والفهم؛ عندئذ تتجلى سلطة المواطنة في ممارسة مسار التقدم بإعادة صنع الواقع والطبيعة، فليس ثمة تقدم دون علم، ويعد العلم منتجًا ثقافيًا، كما تعد الديمقراطية منتجًا للحرية، التي تتأسس علي مبدأ حقوق الإنسان الأساسية. فهل يمكن أن يكون هناك حل للفشل الاقتصادي والسياسي دون ثقافة؛ لقد تمكن العلم بوصفه منتجًا ثقافيًا من هزيمة الجغرافيا بمستجدات تقنياته. ولأن الجهل يشكل امتدادات الفقر؛ لذلك فإن الجهل لا يكافح فسادًا، ولا يدفع تقدمًا، لكن في ظل الحرية بجناحيها: المعرفة والفهم يمكن تثوير المجتمع؛ لذلك تعد الثقافة هي المدخل المعرفي والثوري الأهم للتغيير، عندئذ يمكن اكتشاف العالم كما لو لم يكن موجودًا من قبل. لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى