لا حاجة لتأكيد أهمية تطوير العلاقات المصرية مع كوريا الجنوبية، كجزء من الاهتمام المصرى العام الصاعد بالقوى الآسيوية وسياسة «التوجه شرقا» والتى يتوقع أن تحظى القوى الآسيوية الصاعدة فى إطارها باهتمام خاص. لكن بالإضافة إلى تلك الأهمية العامة، تستند أهمية تطوير تلك العلاقات إلى مجموعة من العوامل الأخرى يتعلق بعضها بأهمية الاقتصاد الكورى باعتباره أحد المصادر المهمة للاستثمارات الأجنبية، خاصة ذات الصلة بفرص نقل التكنولوجيات الحديثة إلى مصر، والدروس المهمة التى ينطوى عليها النموذج التنموى الكورى بما يتضمنه من فرص استلهام دروس هذا النموذج فى الحالة المصرية الراهنة، بالإضافة إلى كون كوريا تمثل أحد المصادر المهمة لتدفقات السياحة الآسيوية إلى مصر. لكن مع كل مصادر الأهمية السابقة، التاريخية والراهنة، مازالت العلاقات المصرية - الكورية لم تصل بعد إلى المستوى الإستراتيجى الذى يضمن الاستفادة المتبادلة للطرفين من هذه العلاقات. الأمر الذى يستوجب ضرورة البحث فى أسباب عدم انتقال هذه العلاقات إلى هذا المستوى، وهى مسئولية مشتركة بالطبع. ونحاول فى هذا المقال الوقوف على عدم تطور تلك العلاقات إلى المستوى الإستراتيجى أخذا فى الاعتبار أن الوقوف على طرح متكامل للحالة الراهنة لتلك العلاقات يتطلب مشاركة أوسع، خاصة من جانب الدوائر السياسية والأمنية، بالإضافة إلى قطاع الأعمال. حداثة الأطر الثنائية يتعلق أول العوامل المسئولة عن الضعف النسبى لحجم العلاقات المصرية - الكورية بالتأخر النسبى فى بدء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ومن ثم تأخر بناء الأطر الثنائية المعنية بتطوير تلك العلاقات. فرغم قدم الاعتراف الرسمى المصرى بكوريا الجنوبية والذى تم مع تأسيس كوريا الجنوبية فى عام 1948، والمكانة المهمة التى حظيت بها القاهرة فى الإدراك العام الكوري، والذى ارتبط بإعلان القاهرة الصادر فى 27 نوفمبر 1943 (من جانب الولاياتالمتحدة، وبريطانيا، والصين) والذى يعد أول وأهم وثيقة تبنتها دول الحلفاء فى ذلك الوقت تتحدث عن ضرورة استقلال كوريا، وهو ما يفسر استمرار اهتمام السفارة الكورية بتنظيم سلسلة من الندوات حول ذلك الإعلان فى القاهرة بمشاركة أساتذة كوريين. رغم كل ذلك، فقد تأخر افتتاح القنصلية المصرية فى سيول إلى حتى أغسطس عام 1991، رغم افتتاح سيول قنصليتها العامة فى مصر فى أبريل عام 1962، كما تأخر الانتقال بالعلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى مستوى السفارة حتى أبريل 1995. وفى المقابل فقد تم تدشين العلاقات الدبلوماسية المصرية مع كوريا الشمالية على مستوى السفارة فى عام 1963، حيث تم افتتاح السفارة المصرية فى بيونج يانج فى ذلك العام على مستوى القائم بالأعمال فى نوفمبر 1963، ثم على مستوى السفراء فى عام 1965. ولم يقتصر الأمر على مستوى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، فقد تبع ذلك تأخر مماثل فى إنشاء اللجان والأطر المشتركة المعنية بتطوير العلاقات الثنائية. وعلى سبيل المثال، فقد تم تأسيس لجنة مشتركة للمشاورات السياسية فى عام 1996 فقط، والتى عقدت دورتها السادسة فى عام 2009 (مرة كل عامين تقريبا)، ثم إنشاء مجلس الأعمال المشترك فى عام 1999، واللجنة المشتركة للتعاون فى مجال الاتصالات والتكنولوجيا فى عام 2004 والتى تعنى بتطوير الحكومة الإليكترونية والبريد المصريين، وأخيرا افتتاح المركز الثقافى الكورى فى القاهرة فى أكتوبر 2014. وهكذا، يمكن الحديث عن جمود نسبى فى العلاقات السياسية والاقتصادية بين مصر وسيول خلال الفترة الممتدة من تأسيس كوريا الجنوبية فى عام 1948 وحتى منتصف التسعينيات من القرن العشرين. وهو أمر يمكن تفسيره جزئيا استنادا إلى محدودية الاهتمام المصري - الكورى المتبادل خلال تلك الفترة على خلفية ارتباط سيولبالولاياتالمتحدة والمعسكر الغربى بشكل عام، وإهمالها النسبى لعلاقاتها بإقليم الشرق الأوسط والتى اختزلت فى التركيز على تجارة النفط، مقابل التركيز الأكبر على علاقاتها مع الأقاليم الآسيوية المختلفة، خاصة مع الآسيان وآسيا المحيط الهادئ بشكل عام، الأمر الذى انعكس على حجم العلاقات السياسية والاقتصادية بين الجانبين. ومع أهمية التطورات المهمة التى شهدتها العلاقات الثنائية خلال العقدين الأخيرين، استنادا إلى مؤشر الزيارات المتبادلة على المستوى الوزارى أو مستوى القيادة السياسية العليا (زيارة مبارك لسيول فى عام 1999، ثم زيارة الرئيس الكورى رو موو هيون للقاهرة فى مارس 2006، ثم زيارة رئيس الوزراء الكورى يونج هونج وون للقاهرة فى نوفمبر 2014)، وما شهدته تلك الزيارات من توقيع عدد من الاتفاقيات وبروتوكولات التعاون، لكن لم تصل العلاقات المصرية- الكورية كما سبق القول إلى مستوى العلاقات الإستراتيجية، كما لم تصل علاقات التجارة والاستثمار إلى المستوى المتوقع. الاهتمام المتبادل المحدود بالقضايا الأمنية يتعلق العامل الثاني، بما يمكن أن نطلق عليه اتساع «المسافة الأمنية» بين البلدين، نتيجة استحواذ قضية الأمن الإٍقليمى فى شرق وشمال شرقى آسيا على السياسة الخارجية الكورية، وهو اهتمام كان له تأثيره على وزن الشرق الأوسط فى السياسة الخارجية الكورية من زاويتين. الأولى، هى تراجع الاهتمام الكورى بالإقليم بشكل عام. والثانية، هى اختزال هذا الاهتمام فى العلاقات الاقتصادية والتجارية بالأساس. وعلى الرغم من حدوث تحول مهم فى طبيعة السياسة الكورية تجاه الشرق الأوسط فى اتجاه تزايد الاهتمام النسبى بقضية الإرهاب والمشروعات الأمريكية فى أفغانستان والعراق. لكن هذا التورط الكورى فى تلك المشروعات لقى ضربة قوية على خلفية الخبرة السلبية الكورية فى أفغانستان، واضطرارها إلى سحب جنودها على خلفية أزمة الرهائن الكوريين لدى حركة طالبان أفغانستان خلال شهرى يوليو وأغسطس 2007، الأمر الذى قد يدفع بسيول إلى إعادة النظر فى هذا التوجه أو هذا المستوى من التورط فى قضايا الشرق الأوسط. الأمر ذاته على الجانب المصري، فعلى الرغم من تزايد الاهتمام المصرى بتطوير العلاقة مع سيول منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، لكن هذا الاهتمام اقتصر على محاولة تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية، خاصة العمل على جذب الاستثمارات الكورية وتنشيط تدفق السياحة الكورية إلى مصر. وفى المقابل، مازال الاهتمام المصرى محدودا بقضايا الأمن الإقليمى فى منطقة شرقى آسيا بشكل عام، وشمال شرقى آسيا بشكل خاص، بما تشمله من قضايا أمنية عدة، بما فى ذلك القضية الأهم بالنسبة لكوريا الجنوبية وهى قضية البرنامج النووى لكوريا الشمالية، وتأثيره على الاستقرار فى شبه الجزيرة الكورية. تطوير خطاب مصرى بشأن القضايا الأمنية فى شبه الجزيرة الكورية وتجدر الإشارة هنا إلى أنه رغم ما يبدو عليه الأمر من عدم ارتباط الأمن القومى المصرى بالبيئة الأمنية فى شمال شرقى آسيا وشبه الجزيرة الكورية، إلا أن هذا لا ينفى إمكانية الدفاع عن ضرورة اهتمام مصر بالأوضاع الأمنية فى شبه الجزيرة الكورية، وعلى رأسها مسألة الانتشار النووى فى شبه الجزيرة لأكثر من سبب. أولها، أنه مع الانفتاح المصرى على القارة الآسيوية بشكل عام، والذى أصبح ملمحا مهما فى السياسة الخارجية المصرية بعد ثورة يونيو 2013، قد يكون من الصعب الحديث عن بعد آسيوى فى تلك السياسة دون تطوير سياسة مصرية واضحة بشأن مختلف القضايا الآسيوية، السياسية والأمنية، جنبا إلى جنب مع التوجه المصرى للعمل على تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع القوى الآسيوية والاستفادة من خبراتها التنموية. ثانيها، يتعلق بوجود سياسة مصرية تقليدية فيما يتعلق بمسألة الانتشار النووى بشكل عام، خاصة الموقف المصرى التقليدى من مسألة الانتشار النووى فى إقليم الشرق الأوسط، على خلفية القدرات النووية الإسرائيلية وإصرار إسرائيل على التمسك بتلك القدرات دونما اعتبار لانعكاس هذه السياسة على استقرار الإقليم. ويتعلق ثالثها، بحساسية كوريا الجنوبية للبرنامج النووى الكورى الشمالي، من ناحية، والعلاقات التاريخية والدبلوماسية بين مصر وكوريا الشمالية. فلا شك أن قدم العلاقات التاريخية، السياسية العسكرية بين مصر وبيونج يانج، على نحو ما عكسه الدعم الكورى الشمالى لمصر إبان حرب أكتوبر 1973، ينعكس على إدراك سيول للموقف المصرى العام من البرنامج النووى الكورى الشمالي، فعدم وجود موقف مصرى معلن بشأن هذه المسألة يضفى نوعا من الغموض حول هذا الموقف، الأمر الذى يحمل الموقف المصرى تكاليف وأعباء غير مطلوبة فى علاقاتها مع كوريا الجنوبية. ويتعلق رابعها، بوجود موقف كورى ثابت ومهم فيما يتعلق بمسألة الانتشار النووى فى الشرق الأوسط، حيث تساند سيول مصر فى سياستها التقليدية بضرورة إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل. العوامل الأربعة السابقة تفرض على صانع السياسة الخارجية المصرية تطوير سياسة واضحة فيما يتعلق بالقضايا الأمنية فى شبه الجزيرة الكورية بشكل عام، ومسألة القدرات النووية الكورية الشمالية بشكل خاص. ويقترح هنا التركيز على مسألة الانتشار النووى بشكل عام باعتبارها القضية أو السياق الأشمل الذى يجب معالجة مسألة القدرات النووية لكوريا الشمالية فى إطاره. وتأتى أهمية اتباع هذا التوجه أنه يتسق مع السياسة المصرية التقليدية بشأن الانتشار النووى فى الشرق الأوسط على نحو ما أشير إليه سابقا، كما يتسق من ناحية أخرى مع سياسات القوى الدولية الرئيسية فى المنطقة والمعنية بالمسألة الكورية (الصين، وروسيا)، وهو من ناحية ثالثة، التوجه الذى تم الاتفاق عليه فى بيان بكين الصادر عن المحادثات السداسية فى 19 سبتمبر 2005، فضلا عن اتساقه مع سياسة سيول الداعمة لإخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل. ولا يقتصر الأمر على إمكانية تطوير خطاب مشترك بأن قضايا الأمن الإقليمى فى شمال شرقى آسيا وشبه الجزيرة الكورية، فهناك فرصة مهمة لتطوير مواقف مشتركة بشأن قضايا الإرهاب التى تشغل اهتماما عالميا، وتزايد الأهمية النسبية للعلاقة بين الإرهاب واستقرار الشرق الأوسط بشكل عام، والذى يعد شرطا رئيسا لتأمين تدفقات النفط ومصادر الطاقة إلى كوريا الجنوبية. الحاجة إلى تطوير المشروعات الاستثمارية الكورية فى مصر بالإضافة إلى ضرورة تطوير موقف مصرى من القضايا الأمنية فى شبه الجزيرة الكورية، هناك مدخل مهم وضرورى لإحداث نقلة فى العلاقات بين البلدين يتمثل فى تطوير المشروعات الاستثمارية الكورية فى مصر. ويجب أن يأخذ هذا التطوير أكثر من اتجاه. أولها، ضرورة التوسع فى المشروعات الكورية الكبيرة، على غرار مشروع الجامعة الكورية فى مصر الذى يعد نموذجا مهما على هذا الطريق. وثانيها، ضرورة تعميق عملية نقل التنكنولوجيا من خلال تلك المشروعات. وتجدر الإشارة إلى ملاحظة مهمة هنا، وهى أنه رغم أن الشركات الكورية لصناعة السيارات كانت من أوائل الشركات التى عملت فى مصر فى هذا المجال، إلا أنها مازالت تركز على عمليات التجميع أكثر من نقل التكنولوجيا. واقع الأمر، أن تطوير المشروعات والاستثمارات الكورية على هذا النحو هى مسئولية كورية بالأساس إذا كانت الحكومة الكورية ترغب فى بناء علاقات شراكة حقيقية بين الجانبين، ومساعدة الاقتصاد المصرى فى هذه المرحلة المهمة فى تاريخ مصر، لكن هذا لا ينفى أيضا مسئولية الجانب المصرى من خلال توفير مناخ الاستثمار المواتى للانتقال إلى هذه المرحلة.